تبييض القيادات المنتهية الصلاحية!
د. محمد سيد أحمد
قد يبدو العنوان صادماً للوهلة الأولى، وقد يعتقد البعض أنني قد قرّرت الابتعاد عن الكتابة السياسية والانخراط في الحديث عن البيئة وملوّثاتها، وما تتركه من آثار على الصحة العامة للمواطنين، لكن الحقيقة غير ذلك…
فما أقصده هنا تبييض القيادات السياسية من نخب حاكمة فقدت صلاحيتها وفقاً لمصالح القوى الاستعمارية الغربية، وكذلك تبييض بعض القيادات التي تقود الحراك الشعبي داخل أوطاننا، بما يحقق أيضاً مصالح نفس القوى الاستعمارية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تلاعبت بحكام وشعوب المنطقة على مدار العقد الماضي، تحت دعاوى الربيع العربي المزعوم، بهدف تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، في حين أنّ الهدف الحقيقي الذي تسعى إليه هو تقسيم المقسّم، وتفتيت المفتت، من أجل مزيد من الهيمنة والسيطرة وتكريس التخلف والتبعية لمجتمعاتنا العربية.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا كسبت مجتمعاتنا من وراء هذا الربيع المزعوم؟ سواء في المجتمعات التي انتهى بها الحراك أو المجتمعات التي مازالت تفور به؟
والإجابة تتطلب الوقوف أمام كلّ حالة على حدة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الحراك الشعبي الذي حدث وما زال في مجتمعاتنا العربية هدفه هو تغيير السياسات المؤدية لغياب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فالمشكلة ليست في النخب السياسية في ذاتها بل في نوعية السياسات التي تطبّقها هذه النخب، وهل هذه السياسات تعمل لصالح الغالبية العظمى من الجماهير الشعبية أم أنها منحازة فقط لفئة محدودة من المواطنين داخل مجتمعاتنا العربية؟
ولنذهب الآن للتحقق مما حدث في كلّ قطر عربي خلال السنوات القليلة الماضية.
مع نهاية العام 2010 هبّت أول حركة جماهيرية في تونس نتيجة حدث فردي وخلال أيام قليلة كان الحراك قد بلور هدفه في إسقاط النظام من أجل تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وبالفعل تمّت الإطاحة برأس زين العابدين بن علي الذي كان يعمل طوال الوقت على تنفيذ الأجندة الأميركية، عبر مجموعة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي أوصلت تونس للانفجار…
وخلال السنوات التسع التالية تمّ تبييض بعض القيادات السياسية التابعة أميركياً، وبالتالي لم تتحقق للشعب التونسي أياً من مطالبه في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وظلت كرامته الإنسانية مفقودة ذلك لأنّ القيادات الثورية التي قادت الحراك ظلت هي الأخرى حبيسة الدور المرسوم لها أميركياً.
ومع مطلع العام 2011 انتقلت العدوى إلى مصر وخرجت بعض القيادات الثورية المصنوعة أميركياً تطالب بنفس المطالب التي رفعت في تونس العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وخلال أيام قليلة أيضاً تمّت الإطاحة برأس حسني مبارك، رجل أميركا الوفي الذي أدّت سياساته عبر ثلاثة عقود كاملة إلى إفقار الغالبية العظمى من المصريّين، وظهرت على السطح بعض النخب السياسية التي قامت أميركا بتبيضها لتكريس التخلف والتبعية، ولم يتحقق للشعب المصري أيّ من مطالبه في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية حتى بعد الإطاحة بالقيادات السياسية التي تمّ تبييضها من سدة الحكم لأنهم ظلوا يهدّدون من وقت لآخر بنشر عدم الاستقرار عبر أتباعهم من القوى الثورية.
وبعد أيام قليلة مما حدث في تونس ومصر تحرّكت القيادات الثورية وبنفس الشعارات في اليمن، وبالفعل نجحت في استبدال علي عبد الله صالح رجل الولايات المتحدة الأميركية الذي أدّت سياساته إلى تدهور أحوال الغالبية العظمى من الشعب اليمني، وبعد صالح تمّ تبييض القيادات السياسية والثورية معاً حتى وصلت اليمن اليوم وبعد التدخل العسكري العربي إلى كارثة إنسانية من الصعب تجاوزها في المدى القريب.
وخلال أيام قليلة مما حدث في تونس ومصر واليمن كانت القيادات الثورية تنطلق في ليبيا بدون مبرّر، رافعة نفس الشعارات وأدرك القائد معمر القذافي أنّ الولايات المتحدة الأميركية تسعى للتخلص منه، وذلك من أجل تحقيق أطماعها في خيرات ليبيا، وقرّر الصمود والتحدي، وخلال ثمانية أشهر كانت قوات الناتو والقيادات الثورية قد اغتالت الرجل، وطفت على سطح المجتمع الليبي كلّ القيادات السياسية والثورية المبيّضة، وما زالت تتطاحن حتى اللحظة، ومن الصعب عودة ليبيا إلى ما كانت عليه في المنظور القريب.
وبعد أيام قليلة من تصاعد الأحداث في ليبيا كانت القيادات الثورية قد تحركت وفق نفس السيناريو الأميركي وتحت نفس الشعارات في سورية، والمبرّر هنا هو كسر شوكة الدولة العربية الوحيدة التي لم تخضع يوماً للأجندة الأميركية، ووقفت داعمة للمشروع القومي العروبي المقاوم للهيمنة الأميركية، فحققت نمواً حقيقياً بعيداً عن الاستدانة والتبعية…
وأدرك الرئيس بشار الأسد حجم المؤامرة على بلاده، وقرّر التصدى للقيادات الثورية المبيّضة بالداخل والجماعات الإرهابية القادمة من كلّ بقاع الأرض، وعبر تسع سنوات من الصمود تمّ تدمير الآثار والحضارة وحرق الزرع وسرقة المعامل ونهب النفط والغاز، وتحتاج سورية لسنوات حتى تتمكن من إعادة ما تمّ تدميره عبر الحرب الكونية عليها.
والإجابة أصبحت واضحة… فالقيادات السياسية والثورية ما زالت الولايات المتحدة الأميركية تقوم بتبييضها داخل مجتمعاتنا العربية، فبعد الانتهاء من المهمة في دول الربيع المزعوم في موجته الأولى، بدأت القيادات الثورية المبيّضة تتحرك في السودان والجزائر لتدخلهما في دوامة عدم الاستقرار، وخلال الأيام القليلة الماضية قامت الولايات المتحدة الأميركية بإعادة تبييض القيادات السياسية و الثورية في لبنان والعراق، بهدف كسر شوكة المقاومة.
فالحراك الدائر على مدار الشهر الماضي في لبنان لا يستهدف تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، بقدر ما يسعى إلى إعادة تبييض القيادات السياسية الموجودة في بعض مواقع السلطة التابعة أميركياً وصهيونياً، بهدف استبعاد المقاومة ونزع الشرعية السياسية عنها، وبالتالي محاولة كسرها لضمان أمن الكيان الصهيوني الذي أصبحت المقاومة شوكة في حلقه.
لذلك يجب أن تعي الشعوب العربية حقيقة ما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية، من إعادة تبييض القيادات السياسية و الثورية داخل مجتمعاتنا العربية بهدف إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار لضمان استمرار التخلف والتبعية التي تحقق مصالحها، اللهم بلغت اللهم فاشهد.