«حموضة معدة»… أحدث إبداعات الأدب الساخر!

سامر منصور

يمتاز الأدب الساخر بالبلاغة نسبة إلى بقية الأساليب الأدبية، حيث يعتمد على التقاطات معبّرة ومفارقات خاطفة مباغتة بعيداً عن الإسهاب والإطالة، كما هي رسوم الكاريكاتير وهـــو أقـــرب إلى روح الحداثة، فمعظم ما خطّه الأدباء حول العالم بهـــذا الأسلوب جاء الحدث فيه والشخصيات ابنة عصرها، وكـــذلك كان الحال في المجموعة القصصية «حموضة معـــدة» باكورة الإبداعات القصصية للدكتور محمد عامر مارديني وزير التعليم العالي الأسبق ورئيس جامعة دمشــــق الأسبق وهي من أحدث مؤلفات الأدب الساخر الســـورية، اتّسمــت القصص بالطابع الحميمي، فهي مشبعة بأماكن نعرفها وأحداثها من واقعنا وأحداث حياتنا اليومية وتَشـــفُّ عن تعلق القاص بسورية المكان والإنسان، حـــد أن بعـــض عناوين قصصه حملت أسماء شخصيات مثـــل: «أبو حسين، أم سميح ، أبو حديد» وجاءت العديد من العـــناوين أقرب إلى عنـــاوين حلــقات في مسلسل كوميدي منها إلى عناوين لنصوص أدبية:

«طرفة حماتي، قبقاب الحارة، أنفلونزا الحمير.. إلخ».

ركّزت المجموعة القصصية على دفء العلاقات الإنسانية رغم اختلاف المستويات والشرائح الاجتماعية التي جسّدتها شخصيات القصص فاستطاع الدكتور محمد مارديني بحساسية الأديب أن يستشعر وهج المحبة والمودة حتى في علاقة بسيطة مع بائع في حيّه.. إنه يثمن العلاقات الإنسانية ويكرّس لدينا حبّ الآخر ويهتم لمشاعر أبسط الناس فعناقيد ذاكرته ودنان وجدانه جعلت مجموعته القصصية نبيذ محبات وتعلق ببسطاء هذا البلد وكادحيه.

تناولت المجموعة القصصية موضوعات متنوّعة مما جعلها مؤلفاً أدبياً ثرياً من حيث التقاطاته وطرحه الفكري ومنها على سبيل المثال: الطبقية النفاق الاجتماعي – استخدام العنف في التعليم من قبل المدرس والأب، كما في القصة التي حملت عنوان «عريف الصف» وتناول في قصته «عوربة على وزن عولمة» ما يتعرض له شبابنا وسط التدفّق التكنولوجي وهنا يـــبرز دور الأديـــب الطليـــعي والريادي في التصدّي عبر فكره وقلمه لما يطرأ ويســـتجد من مسائل لها سلبياتها على الهوية الحضـــارية والثقافية.. ومما جاء في نصّه «عوربة على وزن عولمة» نقتطف:

«لقد عوربنا طعام الخادمات ولباسهن وسحناتهن، ثم ضممناهن إلى مجالسنا وإلى أماكن أكلنا وشربنا وأفراحنا وأتراحنا، إلى أن غدت ماما سوتاتي أم الأولاد الحقيقية بدلاً من ماماتنا سلوى وهدى وخديجة.

فمثلا أمكننا أن نعورب الأندومي إلى أن أصبح أكلتنا المفضلة عوضاً عن الفلافل والشنكليش وكذلك عوربنا مهند ونور ويحيى ولميس، إلى أن أصبحوا أشد عروبة من قيس وليلى ومن رشدي أباظة وسعاد حسني.

ومن اللافت استخدم مفردات واشتقاقات ونحوت لكلمات ومسميات ليست ابنة بيئتنا «أبي كان يستخدم طريقة غوانتنامية اجتياحاً هولاكياً يزلزل مزاجهم واهاملتاه فتحة السقف المسلكنة ينسون برستيجهم المستخلج.. إلخ».

عمد الدكتور محمد عامر مارديني إلى اتباع أسلوب الراوي الشخصية ولكنه استطاع بحرفية عالية جعل هذه الشخصية لا تروي القصـــة مندفـــعة بانفعـــالاتها النفســـية لكونها في خضم الحـــدث ووهـــج الاحتكاك بالآخر. فجاء الراوي في قصته حســــاساً متفاعلاً متأثراً، يتحفّظ أحياناً وتأتي ردوده على التناقضات التي تباغته، تأتي على هيئة مونولوجات وفي أحيان أخرى يعبر ويواجه محيطه.

ورغم كون الراوي شخصية محورية متفاعلة إلا أنه كان موضوعياً على نحو مدهش، ندر جداً أن نجد كاتباً عربياً لا يصدر عبر الراوي أحكام قيمة على الأحداث والشخصيات التي كتبت القصة لاستنكارها أو انتقادها، بل إن الراوي في معظم نصوص المجموعة القصصية «حموضة معدة» لا يشيطن الآخر ويخرج شخصياته عن ثنائية الخير والشر والأبيض والأسود، وهي ثنائية هيمنت على ذهنية الكتاب واجتاحت إبداعاتهم، برزت في العصور الوسطى وما زالت قائمة لدى الكثير من كتابنا لكون مجتمعاتنا تشبه بنسبة ما مجتمعات العصور الوسطى.

نحن نلحظ في قصص الدكتور محمد عامر مارديني أن لها هالة إنسانية ومهما بلغ الصراع أو النفور مداه بين شخصية الراوي والتي جاءت تعبّر عن الإنسان المثقف الواعي، وبين الشخصيات الأخرى، فهو لا يدين الآخر ولا يصبغه بالظلام بل يوحي لنا أن كل شخصيات قصصه ذات السلوكيات السلبية هي بشـــكل أو بآخر ضحية لهالة مرعبة من التناقضات والإسفاف والغوغائية تخيّم على البلاد بأسرها وتطال فئات وشرائح اجتـــماعية وعمرية مختلفة.

وهذه الهالة هي العادات والتقاليد البالية وثقافة الفساد والتسلّط والتطفّل ومن هنا برز الدور التنويري البناء المسبوك بعناية سواء عن قصدية أو من خلال لا وعي الكاتب.. حيث الطاقة الشعورية التي تبثها قصصه المؤثرة في نفوسنا ليست باتجاه كراهية لأنماط وشرائح هي الأقل تعليماً ووعياً في المجتمع، ولكن تجاه منظومة بالية من العادات والتقاليد.

الراوي الذي يكوّن شخصية يأخذنا معه في رحلة ونسير معه خطوة خطوة خلافاً للراوي العليم الذي يتحدّث في كثير من الأحيان «كذات واعظة» تلقي علينا بالحكم والتقييمات والخلاصات مصادرة علينا الرحلة والتفاعل للوصول إلى ذلك بأنفسنا.

كاتب فلسطيني/ دمشق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى