الأميركيون ينقضّون على موازنات القوى الجديدة في الشرق

د.وفيق إبراهيم

تعترف الولايات المتحدة الأميركية بانها تقف خلف المستجدات المتصاعدة على خط اليمن – العراق – سورية ولبنان، بما يؤكد انها ساعية وبحدة كبيرة لتغيير موازنات القوى المستجدة في المنطقة قبل رسوخها، وبالتالي تحددها الى حاجات جديدة.

الاهداف هنا شديدة الوضوح ولا تستلزم كبير معاناة لإماطة اللثام عنها، فواشنطن حريصة على اجهاض اي تشكل لحلف عراقي ـ يمني قادر على الإمساك بالخليج النفطي والغازي بعد عقد أو أكثر بقليل، وترفض تموضع حلف سوري ـ لبناني على الحدود مع «إسرائيل» في فلسطين المحتلة.

لأن مثل هذا السيناريو لا يعني إلا اقصاءها من الشرق العربي بكامله، قبل إدراكه شمال افريقيا وبعض العالم الاسلامي.

بما يعني ان الأميركيين الذين باء مشروعهم بتفتيت المنطقة بخيبة امل كبيرة، دخل من خلالها الروس الى الشرق الاوسط، وتتحضر إيران لأداء دور كبير فيه استناداً الى نجاحها في اختراق النفوذ الأميركي وصمودها امام اكبر حصار في التاريخ. هؤلاء الأميركيون يعاودون اليوم البحث عن آليات تحفظ لهم هيمنتهم التاريخية على الشرق الاوسط.

تنبثق هنا ملاحظة اساسية، في الاستراتيجية الأميركية المعتمدة وهي اسلوب القيادة من خلق بما يضطرهم للبحث عن سائقين محليين.. وتحديد حركتهم نحو التصويب بتركيز شديد على كل القوى التي اسهمت بشكل اساسي في تراجعاتهم في المنطقة.

وهم على التوالي أنصار الله في اليمن والحشد الشعبي في العراق والدولة في سورية وحزب الله في لبنان.

هذه القوى هي التي منعت تنفيذ المشروع الأميركي بتفتيت الشرق بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، وهزمت أكبر ارهاب دولي مدعوم من الأميركيين وحلفائهم في قطر والسعودية وتركيا.

لم تكتفِ هذه القوى بهزيمة المشروع الأميركي، بل بنت انظمة سياسية موالية لها، أما بالمباشر او بالتحالف، فالدولة اليمنية في صنعاء تحوّلت وسواساً أميركياً ـ سعودياً صمدت وشلّت التحالف الغربي ـ الخليجي الإسرائيلي الذي استهدفها.

كما أن الحشد الشعبي في العراق، أمسك بالهيئة التنفيذية الاساسية في أرض السواد وهو مجلس الوزراء.

أما من جهة سورية، فتمكنت من تحرير ثلثي بلادها، وإلحاق الهزيمة بالارهاب المعولم الذي كان مدعوماً من الاردن وبعض قوى العراق وتركيا وامتداداته في لبنان، مع إسناد أميركي مفتوح اختبأ خلف قوى عربية وإسلاموية واوروبية.

على مستوى لبنان، هذا البلد ذو الـ17 طائفة وبالتالي 17 وجهة وعلاقة خارجية، تمكن فيه حزب الله من تحرير جنوب لبنان بمقاومة جهادية من طراز رفيع ابتدأت من 1982 وحتى 2000 بدحر العدو الاسرائيلي رادعاً اجتياحاً آخر في 2006، شكل فيها علاقات قوة جديدة مع الكيان الاسرائيلي عمادها الاستعداد لردعه في كل وقت.

وهذا أدى لبناء استقرار وطني للمرة الاولى في تاريخ لبنان لا يزال مستمراً منذ 13 عاماً على التوالي، دافعاً نحو الحد من الانكشافات السياسية الداخلية، المرتبطة بمواقع خارجية، لكن ما حدث في العقد الاخير هو ان قوى المقاومة في العراق ولبنان ظلت تعتبر ان دورها يندرج في معظمه، في اطار قتال الخارج ومؤيديه في الداخل، الأمر الذي اتاح لقوى سياسية داخل العراق ولبنان، في الوقوع في فساد سياسي يدفع نحو انهيارات اقتصادية كبيرة، منها ما هو تاريخي، كلبنان الذي يسيطر عليه الفساد السياسي قبل تأسيس حزب الله بأربعة عقود على الأقل، ومنها ما هو مرتبط بمرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003.

هناك إذاً جزء من فاسدين في العراق ولبنان كانوا يتغطون بالحشد الشعبي وحزب الله، فيما هذه التنظيمات المجاهدة، لم تكن مستعدة لقتال الخارج والداخل في آن معاً، لأنها كانت ترى أن هزيمة الخارج فرصة لإعادة تشكيل ديموقراطي لداخل نظيف، وهذا بالعادة يتطلب وقتاً وشروطاً داخلية مناسبة.

اما في اليمن، المستهدف بحرب مفتوحة، والمحاصر منذ أربع سنوات تحوّل شعبه «جهادية مفتوحة» لم تعبأ بجوع او استشهاد، يكفي أن مئات آلاف اليمنيين كانوا في ساحات صنعاء الكبرى يستمعون لخطاب السيد عبد الملك الحوثي متحدياً الأميركيين وآل سعود وتحالفاتهم، فبدا مظهراً مؤكداً على شعبية هائلة لدولة محاصرة ومحرومة من كل شيء مقابل دول عربية مجاورة تمتلك كل شيء ولا تستطيع أن تجمع في ساحاتها حتى بضع مئات من الناس وبالأجرة.

اما سورية التي انتصرت على الارهاب فاستطاعت اعادة جذب القسم الأكبر من شعبها، لكنها لا تزال تتعرض لاحتلالات تركية وأميركية واوروبية مع «قسد» الكردية، إضافة إلى غارات اسرائيلية متقطعة.

لذلك كمن الأميركيون مع قوى داخلية لهذه الدول عند مفترق أزماتها الداخلية، بعد عجزهم عن المواجهة العلنية.

فاعتبروا أن إعادة تمتين الحلف السعودي ـ الاماراتي في جنوب اليمن كفيل بفصل الجنوب عن الشمال بعد كنتنة الجنوب بين الرياض وابو ظبي، على اساس معاودة الحرب مع الشمال حتى يقبل انصار الله بكانتون يسلبهم الشاطئ الغربي والحديدة.

لجهة سورية، عاودوا تحريك مشروع كنتنة شرقي الفرات والشمال السوري بين ترك وكرد وعشائر، ونفط يسيطرون عليه ويتقاضون أثمانه، مقابل اصرار سوري مدعوم من روسيا لإعادته الى السيادة السورية.

لجهة العراق ولبنان، فانتظروا حتى اندلاع تظاهرات مطلبية حقيقية تريد ضرب الفساد وتحقيق الأمن الاجتماعي والمعيشي، لمحاولة الإمساك بها عبر بعض القوى الداخلية المستعدة للدخول في عباءة النفوذ الأميركي، فاذا كان المتظاهرون يريدون الغاء الطائفية السياسية في لبنان والعراق فإن القوى السياسية التقليدية المتسللة الى الانتفاضتين هي قوى طائفية وفاسدة.

وهذه إشكالية غير مبررة، لكنها لم تمنع الأميركيين من تزخيم تدخلاتهم في هذه الدول الاربع، باستعمال الرشى والإعلام المفبرك وتحريض قوى على أخرى عبر وعدها بإدخالها في البنى الدستورية للحكم مع اطلاق تعهدات لمناطق بدعمها في الانفصال جنوب ـ شمال، كرد – دول مركزية . هذا لا يعني ان الأميركيين هم المسؤولون عن تصاعد حدة التظاهرات او التحري عليها.

فهناك عوامل داخلية يستعملونها للوصول إلى اهدافهم، اليست بعض قوى الجنوب اليمني هي التي تفتح الطريق للمشروع الأميركي، إلى جانب بعض القوى العراقية، والكرد في الشرق السوري، وأحزاب جنبلاط وجعجع والجميل والحريري، في لبنان. وللتنبيه فقط فإن قوى أنصار الله الحشد الشعبي والدولة السورية وحزب الله، عانوا عقدين لتحرير بلدانهم، فهل يستطيع الأميركيون اعادة ابتلاع هذه الدول، بينما ايران محاصَرة منذ اربعة عقود وحزب الله هزم الإرهاب و»إسرائيل» مرات عدة والدولة السورية عصية على كل المؤامرات؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى