تأصيل النوع… القصّة الوجيزة
أمين الذيب
لا زالت مسألة تأصيل النوع أو التجنيس لأي نوع أدبيّ، عرضة لاشتباك آراء النُّقاد وتباينها وافتراقها في كثير من الأحيان. وهذا يعود حكماً، برأينا الى افتقار المفاهيم النقديّة لفكر فلسفي حاسم، يقوم على منطلقات فكريّة مُلازمة أو مُتماهية مع مسار الآداب والفنون بمختلف أنواعها، لارتكازها على المدارس النقديّة الغربيّة وإسقاطها على الأدب العربي، دون التنبّه الى العناصر الروحيّة الحضاريّة المُتباينة بينهما.
دأب ملتقى الأدب الوجيز على استقصاء الأزمان الأدبيّة، الغربيّة منها والعربيّة، خاصّة المدارس النقديّة، وأقام المُقارنات في سياق التطور الفكري المبني على رؤى مُتجددة تُعاصر انفلات المُخيّلة الى حدودها القصوى، وكانت قناعاتنا تزداد إصراراً على ابتكار زمن فكري جديد، يتجاوز السائد ويبني مسارات نقديّة جديدة تؤسس لقيام مذهب أدبيّ جديد، يعتمد الاتساع الداخلي في اللغة والعودة من اللطافة الى الكثافة، فالتكثيف عصارة التجارب الأدبيّة، والطريق الأجدى لاستنطاق غموض الكون وسبر أغواره، كان لا بُدّ من تجاوز المُخيّلة السائدة، والإطلال على مساحات فكريّة لا زالت مكنونة.
شكّلت فداحة الانغماس بالسائد والتلذُذ بمضغه وإعادة تدويره واجتراره، حجاباً حاجزاً حال لعقود وقرون دون هاجس الانبعاث والابتكار، وهذا ما جعل الفكر الفلسفيّ الغربي يجتاح مساحات هائلة من عقول الأدباء والشعراء والكتّاب وباقي الفنون في عالمنا المشرقي والعربي، جنح البعض الى إغفال وإهمال البناء على أزماننا الأدبيّة منذ ملحمة جلجامش حتى يومنا هذا وبنوا مناهجهم الفكريّة على الفكر الفلسفي الغربيّ، وكأنما هو الهواء يملأ الفراغ.
منذ أن كتب أرنست همنغواي للبيع، حذاء طفل، لم يُستعمل قطّ والتي أُتفِق على تسميتها فيما بعد بالقصّة القصيرة جداً، ثم توالت بعد همنغواي، كتابات مُشابِهة، عن كُتَّاب ينتمون إلى أميركا اللاتينية من قبيل الكاتب الغواتيمالي أوجوستو مونتيروسو والأرجنتينِيَّيْن خورخي لويس بورخيس ، و أدولفو بيوي كاساريس وكُتَّاب غيرهم، مثل إرنستو ساباتو ، و روبرتو بولانيو ، و خوسي دونوسو ، و بيخيلبو بينيرا .
وعلى الرغم ممَّا انتشر في الساحة النقدية – وهو أن ناتالي ساروت صاحبة الكتاب الذي ترجمه فتحي العشري بـ»انفعالات» هي أول من يكتب القصة القصيرة جدًّا في العالم أي: التشديد على أن البداية كانت من أوروبا، الذي جنَّس هذا الكتاب بـ»قصص قصيرة جدًّا» وهو في الأصل عبارة عن رِواية ممَّا جعل الكثير من النُّقَّاد يعتمدون على مغالطات سبَّبتها الترجمة الخاطئة، وبهذا يتأكَّد أن أول عمل قصصي يتناول القصة القصيرة جدًّا، كان مع الكاتب الأميركي ارنست همنغواي.
وفي العالم العربي تلامَحت بعض التجليَّات التي انبثقت عن غير قصد، كما هو الحال عند بعض الكُتَّاب العرب، من مثل: جبران خليل جبران في بعض كتاباته، التائه والمجنون.
لكن البداية الفعلية والواعية للقصة القصيرة جدًّا في العالم العربي، كانت في العراق، حينما «نشر في الأربعينيَّات المحامي نوئيل رسام قصصًا قصيرة جدًّا كما يقول الناقد باسم عبدالحميد حمودي، فعُدَّ ذلك بداية ظهور هذا الفن في العراق في المجال نفسه لمبدعين من مختلف أقطار العالم العربي، وبذلك اتَّسعت رقعة المبدعين والنُّقَّاد المهتمين بهذا الفن، ونذكر من المبدعين: يوسف حطيني، ومحمد منصور، وهيثم بهنام بردي، ومحمد إبراهيم بوعلو، وجمال بوطيب، ومحمد العتروس، وسعيد منتسب، وعبدالله المتقي، وحسن برطال، وميمون حرش، وجمال الدين الخضيري، وآمنة برواضي، وآخرون كثيرون، ومن النُّقَّاد نجد: حميد لحمداني، وأحمد جاسم الحسين، ويوسف حطيني، وجاسم خلف إلياس، وهيثم بهنام بردي، وعبدالدائم السلامي، وجميل حمداوي، وسعاد مسكين، وعبدالعاطي الزياني، ومسلك ميمون، ومحمد داني… والقائمة طويلة.
هذا وقد تضاربت الآراء والمفاهيم بين النقّاد والأدباء، فمنهم مَن كان يؤسس لها على أن لا تتجاوز من حيث الشكل الصفحة والنصف، بينما في أوروبا الشرقيّة توافقوا على أن لا تتجاوز الـ 2000 حرف، وفي بريطانيا الـ 55 كلمة، وكذلك تنوّعت التسميات كاجتهادات فرديّة وصفيّة أكثر ما هي نقديّة، كالمنمنمة والقُصيصة الخ.
فريق الأدب الوجيز بعد أن أنجز التنظير النقديّ للومضة، انكبَّ على تأصيل القصّة الوجيزة، التي تشترك مع الومضة بتقنيات الاتساع الداخلي في اللغة وطاقة المفردة والتكثيف والدهشة، على أن تكون السرديّة في القصّة الوجيزة سرديّة نقيّة، ترتكز على نمو الحدث بدايّة ذروة خاتمة الأفعال الحركيّة شخصّية محوريّة، على أن لا تتعدّى الـ 21 كلمة باستثناء أدوات الربط.
لماذا يعمل ملتقى الأدب الوجيز على تأصيل المصطلح: شكّل المصطلح عبر التاريخ الأدبي – النقديّ بوابة عبور من زمن الى زمن أدبي جديد، وهنا لا بُدّ من تعريف المصطلح، وما هي المرتكزات النقديّة التي دفعتنا في الملتقى الى تأصيل مصطلح القصّة الوجيزة بديلاً عن القصّة القصيرة جداً.
أ- هو اللفظ الذي يضعه أهل عرف أو اختصاص معيّن ليدل على معنى معيّن يتبادر إلى الذهن عند إطلاق ذلك اللفظ.
ب – المصطلح: كلمة أو عبارة تُستخدم في سياق نوعي وتشير إلى مفهوم دقيق ومحدد في هذا السياق..
نشأة المصطلح النقدي:
لقد تشكلت المصطلحات النقدية العربية من خليط من التصورات, استمدّ بعضها من عالم الأعراب وخيامهم البيت ـ العمود ومن عالم سباق الخيل المجلى والمصلى , ومن عالم الثياب حسن الديباجة ـ رقيق الحواشي ـ مهلهل ومن عالم الحروب والشجاعة متين الأسر ومن ظروف التصارع القبلي النقائض ـ السرقة ـ الرفادة ـ الإغارة .
وقد استمد مصطلحات من عالم الطبيعة هذا شعر فيه ماء ورونق ، ومن الحياة الاجتماعية الطبع والصفة بل استمدّت مصطلحات من عالم الجن المعاضلة ـ الفحولة ومن تجارب العرب في الترجمة اللفظ والمعنى .
وهكذا نجد أن البواكر الأولى للمصطلحات النقدية – ثم التطور الذي آلت إليه من بعد – تحمل معطيات الحياة العربية من الجاهلية المعلقات ـ القصائد إلى صدر الإسلام النقائض إلى عصور الانحطاط المعارضات ـ الموشحات .
وبتقدّم الزمن وتعمّق التجربة الثقافية تزوّد النقد بمصطلحات فلسفية، مثل: المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر منها كالصورة مثل التشبيهات العضوية الكلام جسد وروح فجسده النطق وروحه معناه .
وقد بلغ الاتجاه الفلسفي للنقد أوجه على يد حازم القرطاجي في مصطلحات مثل القوة المائزة والقوة الصانعة والقوة الحافظة . وهذا عدا عدداً من المصطلحات الأخلاقية مثل الصدق والكذب والغلو والإغراق ناهيك عما أدخلته المصطلحات البلاغية من استعارة وتشبيه وإدماج وإرداف واصطراف وإطناب وما أضافته في تزويد وافتعال مصطلحات السرقات الشعرية من مسخ وسلخ …إلخ .
أما د.عز الدين فينفي وجود مصطلحات عند اللغويين يدعون أن مقتضيات سك المصطلح لا تتوافر في تلك المرحلة الأولى التي يغطيها أو التي تغطي نشاط اللغويين العرب الذين تحدّثوا عن الشعر وإن كان هو نفسه حين يتحدث عن أسباب وضع المصطلح يقول: «إن المصطلح… لا ينشأ إلا بعد حاجة مفهومية ماسة إليه بعد تراكم معرفيّ يُفضي إلى نوع من الإحساس بأن ما هو متاح من لغة التخاطب أو التفاهم لم يعد كافياً وأن هناك أفكاراً جديدة تطرح تحتاج إلى بلورتها في صيغة اصطلاحية أو لفظ اصطلاحي».
القصّة الوجيزة، مصطلح جديد يخرج من عباءة المصطلحات المتعثرة أو المُقتبسة، وهو مصطلح مطروح للنقاش والحوار، نتطلّع أن يأخذ مداه النقديّ من النقاد الموضوعيين التجديديين، لاعتقادنا أننا جديرون بابتكار فكرنا النقدي الفلسفي بعيداً عن التأثر بالفكر الغربي.
مؤسس ملتقى الأدب الوجيز