تجليات الصراع الروسي الأميركي في آسيا الوسطى
أمجد إسماعيل الآغا
التغيّرات الاستراتيجية التي وسمت مشهد الشرق الأوسط، كان لها بالغ الأثر على الأمن القومي للقوى الكبرى. حيث أنّ طبيعة المتغيّرات الإقليمية والدولية فرضت نمطاً من التعاطي مع جلّ القضايا السياسية والعسكرية، التي أسّست بدورها لمرحلة جديدة تمتاز بالحساسية العالية لجهة مناطق النفوذ، والرغبة بنسج معادلات جديدة قوامها تحقيق الردع، وبناء منظومات سياسية وعسكرية كاسرة للتوازن. والواضح أنّ الشرق الأوسط لم يعد ذاك المجال الحيوي للولايات المتحدة، خاصة مع كمّ المتغيّرات التي فرضت تغيير الاستراتيجيات بما يتوافق مع ماهية الصعود الروسي إقليمياً ودولياً. حيث أنّ رقعة الشطرنج الجيوسياسية في الشرق الأوسط، باتت مؤطرة بالنفوذ الروسي، وهذه حقيقة باتت تدركها جيداً الولايات المتحدة. فالتجاذبات الحادة للأحداث في المنطقة العربية عقب ما سمّي بـ «الربيع العربي»، وتركّز الصراعات الدولية وتصاعدها في تلك المنطقة، غيّب مناطق استراتيجية هامة في العالم عن واجهة الصراع، ولعلّ آسيا الوسطى من أهمّ هذه المناطق، وهي منطقة لا يخفى على أحد من الاستراتيجيين والمحللين ما لها من أهمية كبرى في الحسابات المستمرة لمصالح القوى الكبرى في العالم، وينسحب ذلك على روسيا العائدة بقوة لموقع القوة العظمى، وكذا الولايات المتحدة، حيث أنّ هاتين الدولتين تريدان السيطرة على آسيا الوسطى تحت أيّ عنوان، رغم المخاطر التي من الممكن أن تؤدّي إلى حلقة جديدة من النزاعات والحروب.
روسيا تعتبر آسيا الوسطى المجال الحيوي لها والمحور الأساسي لنفوذها، حيث أنه ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وروسيا تسعى للحفاظ على مركزها كقوة عظمى، وتستهدف السياسة الروسية الخارجية بشكل أساسي جمهوريات آسيا الوسطى: أوزبكستان، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، وتركمانستان. وتعتبر روسيا حدود تلك الدول حدوداً أمنية لها، لا سيما من جهة جمهورية طاجكستان التي يوجد فيها عدد كبير من القوات الروسية على الحدود مع أفغانستان. حيث أنه ووفقاً للتقديرات الروسية، فإنّ واشنطن قد زادت عديد قواتها العسكرية في أفغانستان، على الرغم من أنّ الإدارة الأميركية قد أعلنت في أوقات سابقة، نيتها سحب الكثير من القوات الأميركية في أفغانستان، فضلاً عن تفكيك بعض القواعد العسكرية هناك.
في هذا السياق، قال مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخاص إلى أفغانستان ديمتري كابولوف إنّ «روسيا قلقة من وجود قواعد عسكرية أميركية على الأراضي الأفغانية والتي لم يكن لها أيّ تأثير على الانتصارات التي حققت خلال الفترة الماضية على الإرهاب».
نتيجة لذلك، فقد جهّزت روسيا قاعدتها 201 في طاجيكستان، والقريبة من الحدود الأفغانية بمنظومة «أس 300» الصاروخية المتطوّرة، كذلك نشرت موسكو هذه المنظومة الصاروخية في قاعدة أخرى لها في الأراضي الكازاخستانية، وذلك رداً على الاستراتيجية الأميركية الجديدة الخاصة بالدفاعات الصاروخية الأميركية، وكذلك الاستراتيجية الفضائية الجديدة لحلف الناتو لنشر عدد من الصواريخ والرادارات، بالقرب من الحدود الروسية.
ضمن ذلك، وفي خطوة استباقية تحقق التوازن، فقد قرّرت الحكومة الروسية تطوير العديد من أنظمة الدفاع الصاروخية الاستراتيجية، لا سيما بعد الاستفزازات الأميركية لروسيا، والتي تمثلت بنشر الكثير من المنظومات الصاروخية بالقرب من الحدود الروسية، إضافة إلى انسحاب واشنطن من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. من هنا يأتي التوجّس الروسي لجهة تمكن واشنطن من محاصرة روسيا بالصواريخ التقليدية والمتوسطة، عطفاً على استعانة واشنطن بالبرامج الصاروخية الاستراتيجية، المهدّدة للأمن القومي الروسي.
الهواجس الروسية تنبع من التوجهات الأميركية حيال دول آسيا الوسطى، حيث أنّ هذه المنطقة تحتلّ أهمية خاصة بالنسبة للولايات المتحدة، لاعتبارات جيوسياسية واستراتيجية واقتصادية، وقد شهدت السياسة الأميركية تجاه المنطقة تفعيلاً ملحوظاً في مختلف المجالات على مدى العقدين الماضيين، ووصل التغلغل الأميركي عسكرياً واقتصادياً فيها حداً غير مسبوق. خاصة أنّ الاستراتيجية الأميركية وكذا استراتيجية الناتو، يسعيان إلى احتواء أنظمة الصواريخ الروسية الكاسرة للتوازن. روسيا فرضت حزاماً أمنياً خارج حدودها الإقليمية، من هنا يبدو واضحاً السعي الأميركي لكسر هذا الحزام من الداخل، وذلك عبر التسلل إلى دول آسيا الوسطى، وجذب النخب السياسية في تلك الدول إلى الجانب الأميركي.
ففي وقت سابق، تقدّم الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال فترة رئاسته، بإقتراح لإجراء محادثات منتظمة بين الولايات المتحدة، ودول كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، وتمّت تسمية هذا المشروع باسم «C5 + 1»، ما يعني خمس دول في آسيا الوسطى بالإضافة إلى أميركا.
من جانبه بذل الرئيس الأميركي دونالد ترامب جهوداً كثيرة لزيادة النفوذ الأميركي في آسيا الوسطى، فقد حظيت دول آسيا الوسطى بأهمية استثنائية في أجندة السياسية الخارجية لواشنطن، نظراً لموقعها الاستراتيجي، والذي يسمح لواشنطن التحكم بالقوى الإقليمية الصاعدة في أوراسيا، فضلاً عن الإمكانيات النفطية التي تحظى بها هذه الدول. إضافة إلى ذلك، فإنّ حالة التنافس التقليدي بين موسكو وواشنطن، تفرض توجهات خاصة تجاه تلك المناطق، لفرض الهيمنة وبسط النفوذ في آسيا الوسطى، ومما لا شك فيه، فإنّ التركيز الحالي في التعاطي الخارجي للسياسية الأميركية، يذهب بإتجاه روسيا والصين، والعمل على الحدّ من قدراتهما المهدّدتين للمصالح السياسية والاقتصادية الأميركية، فقد نوّه ترامب إلى هذه التهديدات بقوله «إننا نواجه في جميع أنحاء العالم أنظمة ومنافسين مثل الصين وروسيا اللتين تتحديان مصالحنا واقتصادنا وقيمنا».
من هنا يبدو واضحاً أنّ التوجه الأميركي القادم، سيكون نحو دول الاتحاد السوفياتي السابق عموماً، خصوصاً جمهوريات منطقة آسيا الوسطى، ذات الأهمية السياسية والاقتصادية لـ روسيا. وعليه، فإنّ التوجهات الأميركية الجديدة في آسيا الوسطى، قد تصطدم بالنفوذ الروسي الذي يعتبر أنّ دول آسيا الوسطى، منطقة نفوذ جيواستراتيجية لا يمكن المساومة عليها، خاصة أنّ موسكو تبذل جهوداً كبيرة لإبقاء السيطرة الروسية عليها بشكل دائم، وربط دولها بمعاهدات واتفاقيات دولية تعرقل أيّ محاولة لزعزعة هذا النفوذ أو تهديده.
وبالتالي فإنّ التوجهات الروسية حيال دول آسيا الوسطى، تندرج حكماً في إطار بلورة استراتيجيات جديدة لمواجهة المحاولات الأميركية الرامية لكسر الحزام الأمني الروسي في تلك المناطق. لهذا خططت موسكو فتح صفحة جديدة من التعاون الأمني مع دول آسيا الوسطى. فقد قامت وزارة الدفاع الروسية بمناورات عسكرية مشتركة «سنتر 2019» في العديد من المناطق العسكرية والمياه الساحلية الواقعة على ضفاف بحر قزوين في أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي، والتي شارك فيها نحو 128 ألف جندي من روسيا والصين وباكستان وقيرغيزستان والهند وكازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وفي 31/10/2019 عقد اجتماع لوزراء دفاع الدول الأعضاء في منظمة «همسود» في العاصمة الأذربيجانية باكو، بمشاركة وزراء دفاع أذربيجان وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان، ولقد تمّ التأكيد في ذلك الاجتماع على ضرورة الاستمرار في مواجهة الإرهاب، كما حدّد هذا الاجتماع آفاق التعاون العسكري بين الدول الأعضاء بحلول عام 2025.
في النتيجة، وبناء على ما سبق، فإنّ البحث في تجليات الصراع الروسي الأميركي في آسيا الوسطى، تحكمه الملفات المشتركة بين البلدين، وكذلك طبيعة التغيّرات الداخلية لكلا الطرفين، فالتغيّر الذي حصل أميركياً بمجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يفرض بصماته في السياسة الخارجية، فقد انتهجت واشنطن نهجاً مغايراً في تعاملاتها الدولية، مستندة في ذلك على مبدأ ترامب «أميركا أولاً»، وتنفيذاً لذلك المبدأ الأميركي، شرع ترامب في إعادة صياغة المعاهدات والاتفاقيات الدولية من جديد، دون الرجوع إلى الحلفاء أو التفكير في تأثير قراراته الجديدة على وضعهم، أو إلى الخلافات التي قد تحدثها مع الدول الأخرى، أو إمكان تحوّلها إلى فتيل لصراعات مستقبلية في العالم. من هنا فإنّ هذا المبدأ يفسّر ما يجري من تصاعد للخلافات الأميركية مع الحلفاء سواء من الأوروبيين، أو الحلفاء في آسيا الوسطى وأميركا الوسطى، إضافة إلى اللاعبين الدوليين كروسيا والصين.
وعلى الجانب الروسي، فإنّ روسيا ماضية قدُماً في محاولة الارتقاء بدورها الإقليمي والدولي، وهي ترتكز في جلّ سياساتها الخارجية على «مبدأ ميدفيديف» نسبة إلى الرئيس الروسي الثالث ديمتري ميدفيديف 2008 ـ 2012 الذي تضمّن اعتراف روسيا بأولوية المبادئ الأساسية للقانون الدولي التي تحدّد العلاقات بين الشعوب المتحضّرة، على أن تبني روسيا علاقاتها مع الدول الأخرى ضمن إطار هذه المبادئ، إضافة إلى الرؤية الروسية التي تتمحور حول عالم متعدّد الأقطاب، فعالم وحيد القطب عالم غير مقبول، والهيمنة أمر لا يمكن السماح به. فليس في وسع روسيا قبول نظام عالمي تكون ناصية اتخاذ جميع القرارات فيه ملك بلد واحد، كالولايات المتحدة. فعالم كهذا سيكون غير مستقرّ ومهدّداً بالصراعات، كما أنّ روسيا لا تريد مواجهة مع بلد آخر، وليس عند روسيا نية لعزل نفسها، بل تتوخى إقامة علاقات ودية مع أوروبا والولايات المتحدة وأكبر عدد ممكن من البلدان الأخرى.
وعليه… فإنّ الصعود الروسي على مستوى الساحة الدولية، قد صعّب الأمر على الولايات المتحدة، والتي وصلت بقواعدها العسكرية وقواعد حلف الناتو إلى خاصرة روسيا. لذلك تبقى منطقة آسيا الوسطى مسرحاً استراتيجياً للقوى الكبرى لا سيما روسيا والولايات المتحدة، الأمر الذي يفتح باب التساؤلات والسيناريوات على مصراعيه، دون التوصل إلى تحديد تجليات الصراع الروسي الأميركي في آسيا الوسطى، في ظلّ البحث الدائم عن موطئ قدم يكون مفتاحاً لهذا المنطقة الاستراتيجية.