لتنقية الحراك من استغلال قوى السلطة… والربط بين تغيير السياسات الريعية والتحرّر من التبعية لأميركا

حسن حردان

بعد شهر ونيّف على اندلاع الانتفاضة الشعبية العفوية وتحوّلها إلى حراك، اتضح حجم اختراقها وركوب موجتها من قبل قوى وأطراف وجهات لبنانية مرتبطة بالخطة الأميركية لتثمير الأزمة الاقتصادية والمالية وتداعياتها الاجتماعية للانقلاب على نتائج الانتخابات وإضعاف حلفاء المقاومة وتطويقها، من خلال الضغط لتشكيل حكومة تكنوقراط أو حكومة حيادية من الاختصاصيين تستبعد منها الأحزاب السياسية ويقودها الرئيس سعد الحريري…

هذا المآل الذي وصلت إليه الانتفاضة ترافق أيضاً مع تفاقم في حدة الأزمات النقدية والمالية والاقتصادية واستطراداً الاجتماعية المعيشية التي يجري استغلالها من قبل واشنطن وباريس ولندن للربط بين مساعدة لبنان مالياً واقتصادياً بتشكيل حكومة تنفذ الإصلاحات التي نصّ عليها مؤتمر «سيدر» وفي المقدّمة منها خصخصة ما تبقى من قطاعات خدماتية تدرّ عائدات مالية هامة على الخزينة، إلى جانب القبول بترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة بما يحقق أطماع كيان العدو الصهيوني في الاستيلاء على جزء هامّ من ثروة لبنان النفطية المكتشفة في المياه الإقليمية الخالصة، وهذه الشروط كشف عنها المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان في تقريره أمام لجنة فرعية في الكونغرس الأميركي، واجتماعات باريس التي ضمّت مسؤولين أميركيين وفرنسيين وبريطانيين لمناقشة الأزمة في لبنان وسبل تشكيل حكومة تلبّي شروط مؤتمر «سيدر» وصندوق النقد والبنك الدولي والدول المانحة.. في ضوء ذلك فإنّ استمرار الحديث في الحراك الشعبي عن رفض بلورة قيادة تملك رؤية وبرنامج إنقاذ يحدّد موقفاً واضحاً من هذه التدخلات والضغوط الأميركية الغربية والعمل على تنقية الحراك من القوى والأطراف التي تعمل على استغلال الحراك، إنما يصبّ في خدمة هذه القوى التي تدعو من الأيام الأولى لعدم تشكيل قيادة للانتفاضة حتى تبقى قادرة على إدارتها وتوجيهها من خلف الكواليس ومحاولة دفعها بالاتجاه الذي يحقق الأجندة الأميركية الغربية التي تحدّث عنها فيلتمان الذي لفت إلى الغاية من وراء رفض المتظاهرين تشكيل قيادة وقبول الحوار، فقال «إن «رفض المتظاهرين عمداً فكرة الترويج لقادة من الاحتجاجات للتفاوض نيابة عنهم». وأضاف: «هذا يترك انطباعاً عن الآخر حول من وماذا يكون مقبولًا.. هذا أمر مشؤوم علامة على أنّ واقع شخصيات النظام، المنقسمة، قد تجد سبباً شائعاً في التهرّب من المساءلة والاستبدال، لأنّ «الشارع» قد يكون أقلّ اتحاداً من العروض التوضيحية الخلابة».

لذلك فإنّ مهمة العمل على إحداث فرز حقيقي في الحراك من خلال بلورة قيادة والبرنامج الواضح المبنى على أسس تحقق الاستقلال الاقتصادي للبنان الذي ينهض بالإنتاج الوطني الزراعي والصناعي عبر توفير كلّ الشروط لذلك من خلال تنويع خيارات لبنان، بما يمكنه من إعلان رفض الضغوط والتدخلات الأجنبية وفي مقدّمها التدخل الأميركي، وحماية ثروة لبنان النفطية وحقوقه في مياهه الإقليمية ورفض ايّ تنازل عن ايّ جزء من هذه الحقوق..

فالمعركة باتت واضحة داخلياً وخارجياً وهي تستهدف:

بين من يريد استغلال الشارع ومعاناة الناس لإضعاف حلفاء حزب الله في السلطة وتطويق المقاومة، وتعزيز الهيمنة الأميركية الغربية على لبنان من خلال فرض تشكيل حكومة تلتزم إصلاحات مؤتمر «سيدر» وشروط ديفيد هيل لترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة بما يحقق أهداف كيان العدو الصهيوني بتمكينه من الاستيلاء على جزء من ثروة لبنان النفطية، وبين من يرفض هذه الشروط ويريد التمسك بالمقاومة باعتبارها ضمانة لبنان لردع العدوانية والأطماع الصهيونية في ثرواته المائية والنفطية، ويسعى تحرير لبنان من الهيمنة الأميركية والسياسات الريعية التي عزّزت هذه الهيمنة الأميركية، وبالتالي اعتماد سياسات اقتصادية تنموية مستقلة والاتجاه شرقاً.

من هنا فإنّ مشاركة القوى الوطنية بفعالية في الحراك، ومنع استغلال الحراك والهيمنة عليه من قبل قوى 14 آذار، وإحباط خطة فيلتمان واجتماعات باريس، إنما هو مرهون بقدرة القوى الوطنية على اتخاذ القرار الحاسم بتمييز نفسها عبر التوحد على أساس برنامج وطني اقتصادي اجتماعي يربط بين مقاومة الاحتلال، وبين مقاومة الهيمنة والوصاية الأميركية والعقوبات، والنضال لإسقاط النموذج الاقتصادي الاجتماعي الريعي الذي يحكم لبنان منذ عام 1992 وأدّى إلى إغراقه بالديون وربط اقتصاده بالتبعية لواشنطن، وأفقر اللبنانيين، وإشاعة الفساد وإباحة المال العام أمام الفاسدين…

واهم من يعتقد انه بإمكان لبنان ان يخرج من أزماته الاقتصادية والمالية والخدماتية إذا ما بقي يدور في فلك التبعية للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، فالاستقلال الوطني بتحرير الأرض من المحتلّ الصهيوني لا يكتمل الا بتحقيق الاستقلال الاقتصادي والتحرّر من كلّ أشكال التبعية غير المباشرة، الاقتصادية والمالية والأمنية، للقوى الاستعمارية…

وعليه فإنّ القوى الوطنية مطالَبة بالمسارعة إلى إدراك خطورة الفصل بين الأمرين والوقوع في فخ فصل المطالب الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفساد والفاسدين عن أخذ المواقف الرافضة للعقوبات والوصاية والإملاءات الأميركية التي أسهمت في إنتاج الأزمات التي يرزح تحت وطأتها لبنان واللبنانيون، ودفعت بهم إلى الانتفاضة في الشارع لعدم قدرتهم على مواصلة تحمّل هذه الأزمات والسياسات الريعية المسؤولة عنها…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى