لدى أنطون سعاده العلم اليقين
جورج كعدي
مع أنطون سعاده، متوسّلاً العلم والمعرفة والموضوعيّة والمنهج الصلب المتماسك، نصل إلى المعاني الحقيقيّة للعروبة التي أشبعها النهضويّ الرؤيويّ بحثاً وتعريفاً، انطلاقاً من عقيدته السوريّة القوميّة المبنيّة أيضاً على أسس تاريخيّة وحضاريّة وفكريّة وجغرافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، إلخ، صلبة. فالعروبة لسعاده ليست شعاراً فضفاضاً يعوزه التعريف والتحديد والإسناد العلميّ، التاريخيّ والموضوعيّ، والهدف الجامع.
لنستعد هنا، ودوماً مراراً وتكراراً، ما قاله أنطون سعاده في مقالات متوالية عام 1949 في مجلة «كل شيء»، فتحت عنوان «العروبة أفلست» كتب مُحدّداً: «لم يخامرني قطّ شكّ في أنّ العروبة – عروبة «الوطن العربيّ» الممتدّ شريطة طويلة ملتفّة ومتمعّجة على شواطئ غرب آسيا وشمال أفريقية، وعروبة «الأمّة العربيّة» الموجودة في جماعات مختلفة الأجناس المتفرّقة والبيئات المتباعدة والنفسيّات المتباينة، وعروبة «المجتمع العربيّ» الذي تنقصه كلّ خصائص المجتمع الصحيح الحيّ الفاعل وكلّ عوامل الاتحاد الاجتماعيّ وعروبة الأربعين أو الخمسين مليون عربيّ – قضيّة خاسرة في سورية، مضيّعة لكلّ مجهود تقوم به الأمّة السوريّة لحفظ كيانها ووطنها وتحقيق مطالبها في الحياة … »، ولناحية التعريف والتحديد يتابع سعاده في مقالة تالية عنوانها «انتصار القوميّة السوريّة يحقّق الجبهة العربيّة القويّة!» قائلاً: «إنّ القوميّة هي وعي الأمّة وجودها. والأمّة ليست لغة ولا ديناً ما، بل هي واقع اجتماعيّ – هي مجتمع إنسانيّ وأرضيّ، فلو أطلقت لغة واحدة في العالم كلّه لما جمعت العالم أمّة واحدة. ولو أطلقت فيه مذهباً دينيّاً واحداً لما صار أمّة واحدة. فلا اللغة ولا الدين ولا الاثنان معاً يجعلان الناس أمّة واحدة، أي مجتمعاً ذا شخصيّة سياسيّة. هذه أمم العالم الإسبانيّ فإنّها تتكلّم لغة واحدة، وتدين بالمذهب الكاثوليكيّ الواحد، وجميعها إلى ذلك من أصل واحد اسبانيّ، وهي مع ذلك أمم لا أمة، لأنّها مجتمعات لا مجتمع واحد. وعلى هذا القياس تقيس العالم اللاتيني والعالم الأنكلوسكسونيّ والعالم الجرمانيّ والعالم الصقلبيّ والعالم العربيّ، مع العلم أنّ روابط العالم الإسبانيّ اللغويّة والدينيّة والدمويّة أيضاً هي أقوى كثيراً في ذاتها ومن الوجهة التاريخيّة والوجهة النفسيّة من روابط العالم العربيّ والعوالم الأخرى باستثناء الأنكلوسكسونيّ. إنّ الفتح الحربيّ وتغيير لغة قوم ودينهم بواسطة الفتح لا يلغيان وجود الأمّة المغلوبة. فقد افتتح النرمان إنكلترة وسيطروا عليها وغيّروا لغتها الجرمانيّة وصيّروها لاتينيّة وبقيت الأمّة الإنكليزيّة. وغيّر الفتح العربيّ اللغة السريانيّة في البلاد والدين في غالبيّة السوريّين ولكنّ الثقافة السوريّة هي التي سيطرت على اللغة العربيّة وبقي المجتمع السوريّ هو هو. وبُسط الدين المحمديّ على الفرس والترك وغيرهم وسيطر العرب عليهم حيناً وفرضوا عليهم اللغة العربيّة ديناً ولكنّ القوميّة تغلّبت على الرابطة الدينيّة في الفرس والترك كما تغلّبت على الرابطة الدينيّة واللغويّة في سورية. وسبق الفرس والترك سورية في مضمار الوعي القوميّ بسبب استعادتهما سيادتهما القوميّة باكراً، لتّن الفتح الرومانيّ العالم اللاتينيّ لغة وديناً ولكنّه لم يستطع تلتينه قوميّاً وجعله أمّة واحدة، لأنّه لم يستطع توحيد البيئة والمجتمع. فبقيت إسبانية في طبيعتها وواقعها الاجتماعيّ وبقيت كذلك فرنسة وإيطالية ورومانية، وتجزّأت إيطالية إلى دويلات مخالفة للواقع الاجتماعيّ الجغرافيّ، وقامت فيها مملكة نابولي ومملكة سردينية وجمهوريّة البندقيّة وغيرها وتسلّحت كلّ منها باعتبارات كالتي تتذرّع بها فكرة «القوميّة اللبنانيّة» ولكنّ وحدة البيئة، ووحدة حياة الجماعة، كانت أقوى من كلّ سفسطات التجزئة القوميّة».
في تعريف العروبة وتحديدها يتابع سعاده أيضاً في مقالة تالية عنوانها «حاربنا العروبة الوهميّة لنقيم العروبة الحقيقيّة!…»: «إنّ العروبة الواقعيّة التي تقول بها الحركة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة هي عروبة العالم العربيّ. وهي تختلف كلّ الاختلاف عن عروبة «الأمّة العربيّة والقوميّة العربيّة والوطن العربي والوحدة العربيّة والخمسين مليون عربيّ» الوهميّة. إنّنا واقعيّون في الوجود، نرى العالم العربيّ في واقعه لا في تخيّلات الواهمين. والعالم العربيّ في واقعه عالم بيئات وشعوب وأمم فلا نحاول إيهام الناس أنّه يمكن تحويل هذه البيئات المختلفة والشعوب والأمم إلى بيئة واحدة وشعب واحد وأمّة واحدة، بواسطة رابطة اللغة والدين أو بواسطة دخول كمّية من الدم العربيّ فيما بين تلك الشعوب والأمم من نحو ألف سنة ونيّف، أو بواسطة الطيّارات والبواخر والقطارات!».
الخلاصة ممّا أسلفتُ من فكر سعاده:
1 – إنّ النطاق الجغرافيّ الذي يعمل دعاة «العروبة» ضمنه يتّصف بعدم انسجام مكوّناته من جماعات ذات أجناس مختلفة ومتفرّقة وبيئات متباعدة لا شيء البتّة يجمع ابن الصحراء والبادية بابن الهلال الخصيب لناحية البيئة الاجتماعيّة أو حتّى البيئة الجغرافيّة والمناخيّة، إلخ والنفسيّات المتباينة يمكن سَوْق المثل السابق عينه .
2 – ينفي سعاده بالبرهان والإثبات التاريخيّين قيام أيّ أمّة أو قوميّة على عنصري اللغة والدين، مشدّداً على أنّ الواقع الاجتماعيّ هو الأساس، ومقدّماً العديد من الأمثلة عن القوميّات والأمم، في أوروبة تحديداً، التي تجزّأت أمماً ودولاً وممالك رغم تقاسمها الدين الواحد واللغة الواحدة، ما يشكّل برهاناً قاطعاً عن أن اللغة والدين ليسا أساساً في البناء القوميّ أو الوحدويّ الجامع.
3 – حتّى لدى الفرس والأتراك يدعوهم سعاده الترك غلب الشعور أو العامل القوميّ على الدين، وهذا ما نلحظه فعلاً لدى هذين الشعبين، حتى الساعة الراهنة، إذ تشدّ كلاًّ منهما العصبيّة القوميّة قبل الدينيّة وأبعد منها، ويبدي سعاده إعجاباً معيّناً بالوعي الباكر لدى هذين الشعبين لقوميّتهما، كأنّما الحرقة في قلبه على انعدام وعي سوريّي الهلال الخصيب قوميّتهم على غرار الفرس والترك، وهم ليسوا أدنى عراقة أو أقلّ استحقاقاً لقوميّتهم الموغلة في التاريخ الحضاريّ.
4 – يؤمن سعاده بعروبة واقعيّة نفصّل مفهومه لها لاحقاً هي نقيض العروبة التي وصفها بالوهميّة، لإقامة «العروبة الحقيقيّة» بحسب تعبيره، بحيث يمكن أن تتآخى القوميّة السوريّة الاجتماعيّة وتتآلف وتنسجم مع قوميّات أخرى في «العالم العربيّ» تعبير هو أيضاً له يوازيه رفض تعابير مثل «الوطن العربيّ» أو «الأمّة العربيّة» ، شرط قيام القوميّة السوريّة الصلبة أولاً… ولإكمال الرحلة في فكر سعاده تتمّة.