أعظم سلطة ممكنة من حقّ أكثر الناس تواضعاً

جورج كعدي

أخفق القرن العشرون إخفاقاً ذريعاً لدى محاولته تطبيق خطط الماضي «اليوتوبيّة»، فهو أوجد دولاً جبّارة تتحكّم في وسائل الإنتاج والتوزيع ولكنّها لم تقض على الجوع، ودولاً شجّعت الاكتشافات العلميّة وطوّرت الإنتاج ولكنّها فشلت في توفير مستوى حياة لائق للمواطن وزعمت تحقيق المساواة الكاملة في حين أنها خلقت بذلك طبقات جديدة مميّزة وأشكالاً من عدم المساواة قد تكون أفظع من سابقتها، ودولاً حوّلت الناس إلى «روبوتات» خاضعة للآلات القائمة على خدمتها فتحوّل البشر وحوشاً بتأثير الدعاية، ودولاً أوجدت الظروف التي يُنظر فيها إلى كلّ فكر فرديّ بكونه جريمة وكفّ فيها الأدب والموسيقى والفنون كافة عن كونها تعبيراً عن الفرد وتحوّلت بدلاً عن ذلك إلى نفاق للنظام الذي حلّت فيه العبوديّة للدولة وآلهتها الجديدة مكان الديانة القديمة.

بعض «اليوتوبيّين» عشق السلطة وكان مقتنعاً بضرورة إبلاغ «الشعب» ما هو في مصلحته. أراد هؤلاء النظام بأيّ ثمن، حتى لو كان البيروقراطيّة. كرهوا الفرديّة، وكانت عقولهم ضيّقة الأفق وغير إنسانيّة. اعتقد معظم كتّاب القرن التاسع عشر أنّ الاكتشافات العلميّة والتطوّر الصناعيّ سيؤدّيان بصورة آليّة إلى مضاعفة سعادة البشر، بيد أنّ الأجيال الحديثة تدرك الأخطار التي يمكن بها التقدّم وتعي مزاياه. فلم يعد متوقّعاً من الآلات أن تحرّر البشر عندما تتحوّل إلى عبيد لهم، تبعاً لحلم أوسكار وايلد، إنّما باتت تظهر في معظم الأحيان كأنّها تتحكّم فيهم مثلما يتحكّم الأسياد في العبيد. والعامل الحديث يتعرّف إلى نفسه في شخص تشارلي شابلن الذي يصارع الآلة الجهنّمية لـ«العصور الحديثة»، بل نخاف أن يخرج حتى الإنسان الآلي المطيع على سيطرتنا، وهذا الخوف عبّرت عنه عشرات الروايات والأفلام وألأعمال المسرحيّة.

الإيمان بالآلة عاملاً أساسيّاً في تحقيق السعادة البشريّة يقوم بدور مهمّ في «يوتوبيّات» القرن التاسع عشر، وحلّ مكانه الشكّ في الآلة إلى حدّ الخوف منها فسلب تلك «اليوتوبيّات» جانباً كبيراً من سحرها. ووجّه الكتّاب المحدثون ضربة للأدب «اليوتوبيّ» بإصرارهم على مناقشة مشكلة «الإنسان في مواجهة الدولة»، فمعظم «اليوتوبيّات» افترض أن مصالح الفرد تتوافق مع مصالح الدولة، وأنّ الصراع بينهما أمر مستبعد ولا يمكن تصوّره، فيما تناول الكتّاب المحدثون، على العكس من ذلك، مختلف أشكال الصراعات المحتملة بين الدولة والفرد.

أغفل «اليوتوبيّون» أنّ المجتمع كائن عضويّ حيّ، وأنّ تنظيمه يجب أن يكون تعبيراً عن الحياة لا بناء ميتاً. ودفع الوعي بهذه الحقيقة الكتّاب المعاصرين إلى مهاجمة الدولة وجميع أشكال السلطة، سواء كانت نابعة من الدين أو من الأحزاب السياسية، كما حفّزتهم على العودة إلى نموذج المجتمعات المستقلّة التي يوحّدها نظام فدراليّ حرّ وتتيح الفرص الممكنة لتطوّر شخصيّة الإنسان. وأكّدوا مجدّداً الحاجة إلى إيجاد أخلاق حقيقيّة لا تقوم على طاعة السلطة، ولا تبرّر التضحيات والحلول الوسط «لمصلحة المجتمع»، بل تعزّز حقّ الفرد في أن يفكّر لنفسه ويدافع عن حرّيته، فالإنسان الذي يفتقر إلى الحرّية لا يستحقّ أن يكون عضواً في الجماعة، ولو ضحّى بفرديّته وبروح المبادرة والتمرّد لأضرّ بالدولة بدلاً من أن ينفعها.

نقرأ في كتاب «مدرسة الطغاة» لسيلونه Silone فقرة تشبه الإدانة لـ«اليوتوبيّات» التسلّطية، رغم أنّها موجّهة ضدّ مؤسّسات فعليّة: «إنّ الآلات تستبعد الإنسان وكان ينبغي أن تكون أدوات في يده، والدولة تستعبد المجتمع، والبيروقراطيّة تستعبد الدولة، والكنيسة تستعبد الدين، والبرلمان يستعبد الديمقراطيّة، والمؤسّسات تستعبد العدالة، والأكاديميّات تستعبد الفنّ، والجيش يستعبد الأمّة، والحزب يستعبد القضيّة، وديكتاتوريّة البروليتاريا تستعبد الاشتراكيّة».

كذلك، يقول هربرت ريد، على نحو أكثر قوّة وإقناعاً: «أعتقد أنّ الفكرة الوحيدة عن المجتمع التي يمكنها أن تضمن تكامل الشخص الإنسانيّ، هي نفي فكرة المجتمع. فكلّ تقدّم في اتجاه الجماعة يجب أن يقابله تأكيد لحريّة الفرد. وكلّ قانون يجب أن يسمح بالخروج عليه. وأعظم سلطة ممكنة يجب أن تكون من حقّ أكثر الناس تواضعاً. وكلّ عمل حكوميّ يجب أن يتضمّن حدود صلاحيته مثلما يتضمّن عدم دوام المنصب أو الوظيفة. ويجب أن تكون استمراريّة الحياة أمراً غير مرئيّ مثل اتجاه الريح. لا طبول تقرع، ولا أعلام ترفرف، لا تحيّات ولا انحناءات، لا جيوش زاحفة في الاستعراضات ولا جوقات منشدة، بل أمر واحد فحسب هو الصوت الوديع الهادئ وقمح الشرق»… يتبع حلقة أخيرة في هذا الموضوع السلسلة .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى