بودلير في باريس مدينة الجريمة والعنف والكراهية والصراع الوحشيّ
في عدد تشرين الأول الفائت، خصّصت «المجلّة الأدبيّة» ماغازين ليتيرير الفرنسيّة ملفّا خاصّا عن الشاعر الفرنسيّ الكبير شارل بودلير 1821-1867 وتضمّن الملفّ مقالات ودراسات حول مختلف الجوانب التي تميّزت بها مسيرة مبدع «أزهار الشرّ» الذي لم يكن شاعراً فحسب، بل كان صحافيّاً أيضاً، وناقداً فنيّاً، ومترجما يعود إليه الفضل في نقل قصص الأميركي إدغار ألان بو إلى لغة موليير.
بيار غلوداس، أستاذ في جامعة السوربون، طرح السؤال الآتي: هل كان بودلير ثوريّا أم رجعيّا؟ موضحاً بودلير كان في بداية مسيرته منجذباً إلى الحركة البارناسيّة، من دون أن يقطع مع الكلاسيكيّة التي كان يجسّدها فيكتور هوغو. وفي تلك المرحلة من حياته، كان يرى أن العمل الفنيّ لا بدّ من أن «يتخذ شكلاً ثوريّاً». ولعلّ ذلك يفسّر إعجابه بأفكار الفيلسوف الفرنسي فورييه 1772-1837 مؤسّس ما سماه كلّ من ماركس وأنغلز بـ»الاشتراكيّة الطوباويّة».
في المقالات التي كان ينشرها في الصحف والمجلات، دأب شارل بودلير على الدفاع عن أفكار فورييه، معتبراً أن الفن الحقيقي لا بدّ أن يكون حاملاً «البذرة الإلهيّة ذات الطابع الطوباويّ».
ولم يكن يخفي نفوره من النظام البورجوازي القائم الذي كان يمثله الجنرال «أوبيك» بغطرسته وبقمعه جميع الحركات الثوريّة والديمقراطية. غير أن بودلير لم يلبث أن انحاز إلى الفيلسوف الفرنسي برودون مبتكر «الاشتراكيّة الفوضويّة» التي شهدت رواجاً كبيراً خلال ثورة 1848 المناهضة للنظام الملكي، والتي امتدّ لهبها إلى العديد من البلدان الأوروبية. ومن المؤكد أن بودلير أظهر إعجابا بمقولة برودون المشهورة: «الحرية هي الفوضويّة لأنها لا تقبل بحاكميّة الإرادة، وإنما هي تقبل بسلطة القانون، أي بحاكميّة الضرورة». لذا لم يتردّد بودلير في المشاركة بحماسة في تلك الثورة وشوهد مع الثوار خلف المتاريس التي نصبت في شوارع باريس على مدى أسابيع. وفي المقالات التي نشرها في الصحف المساندة للثورة، أظهر بودلير مساندته المطلقة لبرودون واضع كتاب «فلسفة البؤس» معتبراً أنه «أفضل معبّر عن المعارضة المناهضة للبورجوازيّة الرجعيّة». وضمن رسالة بعث بها إليه في آب 1848، كاتباً له أنّه يمنحه «ثقته المطلقة»، وإنه «مستعدّ مع بعض أصدقائه، أن يسير خلفه مغمض العينين لقطع الطريق على وحوش الملكيّة».
مثل برودون، أدان بودلير الذي كان بدأ يبتعد عن الحركة البارناسيّة وعن الكلاسيكيّة ليمسي ناطقاً باسم الحداثة، من سمّاهم بـ»الديماغوجيين» الذين استغلوا انتفاضة الشعب ليستولوا على السلطة وليسرقوا الثورة من الذين أشعلوها. كما سخر بودلير من شعاراتهم الكاذبة، ومن «كلماتهم المذهّبة» التي يستعملونها لخداع الجماهير وتضليلها، وهم لم يفعلوا ذلك سوى لكونهم عاجزين عن تلبية مطالب تلك الجماهير التي «لا تعيش بالكلام المعسول إنما هي في حاجة إلى الخبز».
لكن بعد الانقلاب الذي حصل في الثاني من كانون الأول 1851، والذي أعاد النظام الملكيّ إلى السلطة، شرع بودلير في الابتعاد عن برودون، معترفا لبعض أصدقائه المقربين أنه فقد كلّ «حماس للثورة»، مع ذلك ظلّ يتابع بشيء من الاهتمام الحوادث السياسيّة والجدال القائم بين الأحزاب والكتل المتصارعة والمتنافسة على السلطة. وفي رسالة بعث بها إلى الناقد الكبير سانت بوف في صيف 1858، لم يتردّد بودلير في السخرية من برودون ناعتاً إياه بـ»الفلاح الغليظ» وبـ»الرجل الخشن العاجز عن أن يكون أنيقاً ومهذّباً». وفي قصيدته النثريّة «ماذا تقول أيها المواطن برودون؟»، ضاعف كاتب «أزهار الشرّ» من احتقاره لكاتب «فلسفة البؤس» محمّلاً أفكاره مسؤولية «الاستعباد الجديد الذي باتت تعاني منه الجماهير».
في تلك الفترة اكتشف بودلير المفكر ورجل السياسة جوزيف دو ماستر 1753-1821 الذي كان من أشدّ المناهضين للثورة الفرنسيّة، مديناً الفوضى التي تخللتها والجرائم التي ارتكبت باسمها والتجاوزات الخطيرة التي طبعتها. واعتبره بودلير «العبقريّة الهائلة لعصرنا» إذ أظهر بحسب رأيه معرفة بـ»الطبيعة البشريّة الميّالة إلى العنف والشرّ»، محمّلاً مسؤوليّة البؤس الإنساني لا للحكام فحسب وإنما للمحكومين أيضاً». ومن هنا يمكن فهم سبب تضخم «نزعة الشر» لدى بودلير. لذا بات ينظر إلى باريس كأنها مدينة الجريمة والعنف والكراهية والصراع الوحشي لإرضاء الرغبات والمطامع البشريّة. وها هو يكتب: «في كلّ صحيفة ـ من السطر الأول حتى السطر الأخير ـ ليس هناك غير نسيج من الفظاعات، جرائم وسرقات وعمليات تعذيب وعهر وفجور وجرائم أمراء وجرائم أمم وانتشاء كونيّ بالعنف». ومثل جوزيف دو ماستر، بات بودلير يرفض «المساواة» المطلقة بين البشر، مفضلاً العزلة بعيداً عن صخب الجماهير الغاضبة والحاقدة! وفي قصائده بات الألم الإنسانيّ يحتل مكانة بارزة تماماً مثلما هي الحال بالنسبة إلى التشاؤم، والخيبة المرّة ولـ»قانون الزمن المرعب»