الوطن الذي أكله العفن…!
د. سلوى خليل الأمين
الوطن هو حكايات الوجود والصمود، بل هو الكيان الذي لا يتمناه المواطن مهزوماً، لأنّ الهزيمة حالة إحباط وانكسار تقضي على روح الإنسان قبل فناء جسده، لهذا تصبح تلك الروح كالريشة الطائرة في مهبّ الرياح، التي لا تدرك أبعاد المسارات المتغيّرة والمتعاكسة، حين القهر والظلم من علامات الاستبداد المغلّف بإخفاء الحق والحقيقة، وحين التغاضي عن الصالح العام للوطن والمواطن على حدّ سواء، ينداح لصالح النظريات الثورية الجذابة في شعاراتها المنمّقة، التي ارتسمت في أذهان الجماهير خيالات انطباعية مسوّرة بتواريخ ملتبسة تركها الزمن خلفه، حين بدأت ثورة التكنولوجيا والمدارات المتحرّكة صعداً، خصوصاً عندما تصبح مضامين العقل هي نقطة الإرتكاز في مسيرة البشر، التواقين إلى الحرية المطعّمة بالسعادة والفرح، وهدوء المسارات المرتكزة إلى مشهديات الأمن والأمان.
ولبنان هو هذا الوطن الأبدي لكلّ من يحمل هويته منذ ولادته على أرضه، لكن ما يشهده هذا الوطن من عفن في مقاماته العالية، لا يدعو إلى الانهزام فقط، بل إلى القرف من مسؤولين لم يحسِنوا صوْنه ورعايته والحفاظ عليه من شرّ الدواعش المتمركزين في الداخل والخارج، يستهوون خرابه واندثاره، وهجرة بنيه بل عائلات بأكملها، إضافة إلى تطويقه بمخيمات لاجئين تضمّ أشقاء من فلسطينين وسوريين وعراقيين، هم في الحقيقة أخوة مصير ومسار لكلّ العرب، وليس فقط لهذا الوطن الصغير بمساحته، الكبير بعنفوان أهله وطاقاتهم المشرورة عبر البحار، توخياً لاتقاء عثرات الزمن ومراراته الموجعة.
ما يؤسَف له، أنه حين يغادر أحدنا الوطن إلى الخارج، يجد المقارنات قد ارتسمت في رأسه فوراً، بين لبنان الذي كان سويسرا الشرق والبلد المقصود، فلبنان المتخم بازدحام السيارات وضيق الطرقات، التي لم تسعف ذاكرة المهندسين الذين أوْلوا اهتمامهم لتوسيع طرقاته وفق حسابات خاطئة لم يلحظها مخطط الإنماء والإعمار الأعرج، الذي أغرق الوطن في الدين الخارجي المثقل بالحاجة والفقر، فهذا الوطن الغارق في أتون التلوث البيئي والفساد الغذائي، قد صغرت مساحاته وأثبت عجزه عن ضمّ الأبناء بين أحضانه، والسبب واضح، ألا وهو عدم قدرة الجيل الجديد على تدبير شؤونه الخاصة مادياً ومعنوياً، وبالتالي فالحلّ الأنسب اختيار الغربة مع ما يتبعها من إرهاق نفسي وعاطفي.
لقد حدث وأنا أتجوّل في إمارة دبي وإمارة أبو ظبي، اللتين لم أزرهما منذ أكثر من عشر سنوات، أنني فوجئت بما رأيته من أبراج تصافح السماوات السبع الطباق، والتي تغلبت بعلوّها على ناطحات السحاب في نيويورك الأميركية، وأصبحت بحق شاهدة على عصر التطوّر والإعمار في صحراء الغزلان الشاردة، بل لوحة جمالية تضاهي بروعة هندستها وبنيانها أجمل اللوحات العمرانية، إضافة إلى ما أضافته الرؤى المسؤولة على البنى الفوقية والتحتية المتوفرة بجودة وإتقان وتسهيل مرور وعيش لائق، أسعدت المواطن الذي يعتبر نفسه بحق ملكاً متوجاً في تلك الديار، التي منحته حلاوة العيش ولذائذ الفرح والسعادة الدائمة، إضافة إلى الأمن والأمان المصونان برعاية تامة من دولة تمتلك إدارة مسؤولة وحازمة، عرفت أن تعطي مواطنيها ومن يلوذ بهم، كل ما يطمحون إليه، بشرط احترام القانون وممارسة شعائر الحرية بكل مسؤولية وطنية، لا تضرّ الوطن ولا تخربط مزاج الحاكمين المنصرفين حقاً إلى البناء والإعمار.
تلك اللوحات العمرانية الجميلة التي رأيتها خلال رحلتي إلى دبي، بدعوة كريمة تلقيتها من مجلس المرأة العربية، بهدف تكريمي مع النساء العربيات القياديات في العالم العربي، أسعدتني، وفي الوقت ذاته جعلت الآه المؤلمة تتفاعل في داخلي، وتتحوّل إلى حالة حزن عميق مغلّف بالأسئلة التي لم أجد لها جواباً، حيث لغة التخاطب أينما حللت هي اللغة الإنكليزية، علماً أنّ البلد عربي الهوية والانتماء، لهذا فمن الصعب لمن لا يتقن اللغة الإنكليزية أن يزور تلك البلاد، فلغة العمّ سام محت لغة الضاد في كلّ المطارح! في الفنادق والمخازن الكبرى والصغرى وفي مختلف الأماكن التي يمكن للسائح أن يزورها، لهذا أصبحت اللغة العربية الرسمية لغة منسية حتى على الورق، وهذا ما حداني أن أواجه إحداهن من سيدات الخليج الشهيرات المكرّمة معنا في الاحتفال، بالقول: ألا تخافون المستقبل؟ قالت لماذا؟ قلت: نحن كعرب نفتخر في كلّ بلد عربي يتطوّر ويعلي البنيان وفي الوقت نفسه نخاف عليه، والسبب أنكم تسلّمون أموركم الإنتاجية والإنمائية للعمال والكفاءات الأجنبية، وتهملون الطاقات العربية من فلسطينيين وسوريين وعراقيين ولبنانيين ومصريين، وكما أعرف فدولتكم تفرض شروطاً صعبة على المواطن العربي للعمل هنا، بينما الأجنبي مرحّب به وتسلّمونه كلّ مقدّرات البلد ومساراته، ألا تقرأون التاريخ؟ ألم تدرسوا في صحائفه قصة المماليك والدولة الفاطمية؟ ثم لماذا على دول بلاد الشام أن تعاني الفقر ومحاربة «إسرائيل»، وأن تعيش شعوبها القلق والخوف والحاجة والحرمان؟ فيما شعوبكم لا تدري ما نحن عليه في بلدنا ومنطقتنا من معاناة؟ أليس الشقيق لوقت الضيق؟ ألا يعنيكم قتال بني صهيون؟ لماذا القضية الفلسطينية هي قضيتنا فقط، وشهادة الموت حكراً على شبابنا، وشرور «إسرائيل» نتلقفها لوحدنا؟ ألستم شركاء لنا في السراء والضراء؟ ألا يليق ببيروت ودمشق وبغداد والقاهرة وحتى القدس أن تنعم بهذا التطوّر العمراني الآخاذ؟ أجابت: بلى، قلت كيف؟ وأنتم لا تعطون إشارة الدخول إلى بلدكم لأيّ إنسان عربي إلا بعد جهد جهيد، والعكس هو الصحيح! ومن ثم تساهمون في ضربنا بـ«داعش» وزُمَرها عبر مدّهم بالمال والسلاح والعتاد، ومن لا يدعمها مادياً ولوجستياً، يتغاضى عمداً عن الدول التي تقوم بهذا الفعل الإجرامي المشين، لماذا لا تستنكرون ما يجري في سورية والعراق؟ وما يحصل في لبنان، ألا تعلمين أننا لتاريخه لم يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية في وطني، والسبب تضارب المصالح بين السعودية وإيران من جهة وبين أميركا وإيران من جهة ثانية بسبب المباحثات القائمة بينهما للحدّ من السلاح النووي في الوقت الذي تنعم فيه «إسرائيل» بالنووي ولا من معترض أو مستاء من حكام هذا الخليج العربي، قالت: أنت ثورية، أجبتها: أنا أحب وطني من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه وعلى امتداد كلّ منافذ الخلجان والبحار، وفي قلبي دائماً وطني لبنان الذي هو جزء من منطقة بلاد الشام المغلوبة على أمرها، المبتلية اليوم بدواعش أميركا والصهاينة، أما أنتم فهادئون تنعمون بالأمن والأمان، حتى أطفالكم لاهون وسعداء يتنشقون أسباب الرفاهية كلها، في الوقت الذي تذبح فيه «داعش» الأطفال في سورية وتصلبهم على أغصان الشجر، ويلحق العار الفتيات دون ذنب لمجرّد أنهم لا يؤمنون بمنطق «داعش» التكفيري، وتستبيح التفجيرات القاتلة أرض العراق ويُهجر مسيحيوها والأزيديين من أبناء شعبها، وفي لبنان يُذبح جنود الجيش الأسرى واحداً تلو الآخر من قبل مجرمي «داعش» و«النصرة» الذين يحتلّون جرود بلدة عرسال البقاعية. ترى أين أنتم والعالم كله من شرعة حقوق الإنسان التي ترعاها وتصونها منظمة الأمم المتحدة؟ ألم يقل المثل: أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب؟ تعالوا نتعاون على مقاومة «إسرائيل» كي يتمّ طردها من أرض فلسطين، ساعتئذ ننعم جميعنا بالأمان! تعجّبت من كلامي قائلة: أنت تتكلمين بلغة شعرية عاطفية تتخطى الواقع… أجبتها أنا كاتبة مقال سياسي منذ العام 2003، وتدرّبت على النضال القومي منذ التاسعة من العمر، ولتاريخه لم تغيّرني الأيام ولا حتى تبدّل المسارات، والسبب إيماني بالوطن الذي لا يمكن أن يُحكم سوى بالعقل، الذي هو منحة ربانية ميّز بها الخالق الإنسان، لهذا عليكم استعماله بالحذر من المستقبل الذي قد يكون ضدّكم، لأنكم لتاريخه لا تنعمون بحسن استعمال الثروة النفطية كسلاح فعّال، باستطاعته إخضاع أعداء الأمة، الذين يقتلوننا بهواوينهم وقنابلهم الذكية وطائراتهم الفانتومية، وهذا الفعل يلزمه جرأة القائد الوطني القوي، المتمكن والقادر على استيعاب التاريخ وأمثولاته العابرة كلّ الفصول، والشواهد كثيرة.
انتهى الحديث بلفة عنق لا مبالية، تضحك في سرّها من هذه الإنسانة التي ما زالت تؤمن بزوال «إسرائيل»، والآتية من وطن غائص في عفن المسارات والأغذية الفاسدة.