درس من كوبا
معن بشور
في مطلع عام 1992، وفيما الزهو يغمر الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش الأب، بعد حرب بلاده وحلفائها الأولى ضد العراق، وبعد نجاحه في استدراج الدول العربية إلى مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، وفي ضوء انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية من حوله، وقف بوش أمام جمع من الكوبيين المنفيين قائلاً: أعدكم أننا سنحتفل في عيد الميلاد المقبل في هافانا، موحياً بأن النظام الذي يقوده فيدل كاسترو سيسقط حتماً.
يومها، وضع كثيرون أيديهم على قلوبهم خائفين على هذا الموقع الثوري، الذي صمد على مدى عقود في خاصرة الدولة الكبرى والأقوى في العالم، من أن يسقط أخيراً في ظل الزلزال الضخم الذي هزّ العالم بعد ما جرى في موسكو وبوخارست وبرلين وبراغ وكييف وتبليسي وقبلها في وارسو عاصمة بولندا، بل بعد ما جرى في العراق آنذاك، وبعد انتشار غير مسبوق للقوات الأطلسية في «خليج الشمس الساطعة» كما أسماه يوماً الاسكندر المقدوني.
كان السؤال يومها محيّراً للجميع، كيف تصمد دولة صغيرة بحجم كوبا وسط هذه الأعاصير، وهي على بعد أميال من فلوريدا الأميركية، فيما تقوم في جزء منها واحدة من كبرى القواعد العسكرية الأميركية غوانتامو التي تحولت إلى واحدة من كبرى معسكرات التعذيب الأميركية في العالم، والتي قد يكون سر اختيار جورج بوش الابن لها كسجن للمقاتلين في أفغانستان نوعاً من الرمزية التي تريد تصوير جزء من كوبا كسجن أميركي، فيما لم يستطع السجن الأميركي الكبير أن يقفل أبوابه الحديدية على كوبا وعلى قيادتها الثورية.
يومها قلت في لقاء تضامني عقدناه في الطريق الجديدة في بيروت مع الثورة الكوبية بعد أن تصرف المندوب الكوبي في مجلس الأمن آنذاك كالمندوب العربي الوحيد في دفاعه عن فلسطين والعراق وسورية وحركة التحرر العربية والعالمية إن كاسترو باقٍ وبوش هو الذي سيكون في عيد الميلاد المقبل 25 كانون الأول 1991 يوضب حقائبه للخروج من البيت الأبيض». وهو ما حصل في الانتخابات الرئاسية في خريف 1992.
لم تكن تلك الفكرة نبوءة آنذاك، ولم تكن رداً انفعالياً على مناخ الإحباط الفكري والسياسي الذي طوق نخباً عديدة، بل كانت إدراكاً بسيطاً وعفوياً أن في كوبا شعب مسكون بروح التمرد على الطغيان والتبعية، وفيها أيضاً قيادة ثورية تعرف كيف تلتصق بشعبها، وتحرص على مبادئها، وتدرك أن الأوطان موجودة باستقلالها فإن خسرت استقلالها تخسر كرامتها وعنفوانها بل ووجودها نفسه.
وكنت أدرك، كالكثيرين، أن ما من شعب قرّر الصمود خلف قيادة صلبة إلا وانتصر على أعدائه مهما طال الزمن، وأن هذا قانون عرفته كل الأمم المكافحة، كما عرفه الكوبيون أنفسهم حين امتشق عشرات منهم السلاح، وفي أواسط الخمسينات من القرن الماضي، وعلى رأسهم الثنائي كاسترو غيفارا، فأسقطوا باتيستا الطاغية، وتحصنوا بوجه كل الإغراءات والتهديدات الأميركية.
اليوم ستحتفل كوبا بأعياد الميلاد لهذا العام، وبعد 23 سنة على «وعد» بوش الأب، وهي تحتضن قائد ثورتها فيدل ورئيسها راؤول، فيما يمضي بوش الأب وابنه وأحفاده عطلة عيد الميلاد في مزرعتهم في تكساس بينما تعصف بدولته أعاصير العصبيات العنصرية بكل ما تحمله من أخطار…
«درس من كوبا»، هذا ما كشف عنه إقرار الرئيس الأميركي أوباما بأن كل محاولات إدارته لإخضاع كوبا قد فشلت، فهل سيقرّ أوباما أو من يخلفه أن كل محاولات إداراتهم لثني شعب فلسطين عن مقاومة الاحتلال والاغتصاب قد فشلت مع انتفاضة تتجدد، ومقاومة تتسع وتعيد صوغ المعادلات، كما أن كل دسائس أجهزتهم وأدواتهم لم تنجح في تدمير إرادة الشعب في العراق وسورية، وفي مصر وليبيا والسودان، وفي اليمن والجزائر والصومال، ناهيك عما جرى للبنان وفيه.
قد تتباين وجهات النظر في ما جرى بالأمس من تطور خطير ومذهل في العلاقة الأميركية مع هافانا، وقد يعتقد أسرى وهم القوة الأميركية الطاغية في كل مكان وزمان، أن ما جرى هو محاولة استيعاب للدولة والثورة، وقد يعتقد البعض أن ما جرى هو إغلاق جبهة للتفرغ لجبهات أخرى أكثر سخونة، بل ربما لاستفراد دول أخرى في أميركا اللاتينية وعلى رأسها فنزويلا، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن كوبا الثورة قد صمدت وظفرت وانتصرت.
إنه درس من كوبا لكل من يسعى إلى فرض التبعية على الأمم، ولكل من أثبت أن لديه «قابلية واسعة للتبعية»… وهم ليسوا قلة خصوصاً بين بعض النخب و«المحللين الاستراتيجيين».
المنسق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية