ويحدِّثونك عن «ثورة سورية» مزعومة
د. وفيق ابراهيم
إنّ الإصرار على تسمية الإرهاب في سورية بـ«الثورة» ليس بريئاً على الإطلاق، وهو يرمي إلى التعمية على الحقائق لإعادة المنطقة ألف عام إلى الوراء.
فالثورة هي حركة تغيير متطورة في الفكر، تنتج مشروعاً سياسياً لمعانقة المستقبل، لكنّ ما يحدث في سورية هو محاولة لاستعادة «وباء تاريخي» يستحضر الماضي السحيق ببربريته وجاهليته وتخلفه.
ليس في الأمر مبالغة، وفي الإمكان عرض آلاف البراهين عن الجواري والسبايا والإماء والغلمان والعبيد وعمليات الذبح والقتل والسحل والمذهبيات والطائفيات واستحضار غيب مزعوم تُرتكب باسمه كلّ المحرمات وتُطلق الفتاوى والتفسيرات الفقهية المضللة لتبرير الاستئثار بالنساء وسرقة النفط وخنق الرحمة والصفح.
الجانب الآخر لـ»الثورة المزعومة» هو ارتهانها للخارج، فالغرب الأوروبي والأميركي الذي يتواتر على احتلال منطقة ما بين النهرين والهلال الخصيب ومصر، على مرّ العصور اليونانية والإغريقية والرومانية وحقبتي المماليك والأتراك، وصولاً إلى عصر الدول الاستعمارية الأوروبية الحديثة مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وفر مناخات مؤاتية لإنتاج تلك «الثورة» المزعومة، فهناك نحو اثنتي عشرة قاعدة عسكرية أميركية وبريطانية وفرنسية في المنطقة العربية، إلى جانب «إسرائيل» التي تحتل فلسطين وتشكل أكبر قاعدة استيطانية في العالم.
فكيف يمكن لوباء يلتحف هذا السرطان التاريخي ويتسربل بغطاء من هذه القوى المحتلة أن يكون «ثورة»؟ هل نحن بسطاء إلى حدٍّ نصدق فيه أنّ السعودية بنظامها السياسي المتخلف والبدائي تستطيع تأييد ثورة فعلية يباركها ولي الأمر وأولياء عهده وعشيرته بغيبية الخرافات والأساطير؟
ولا ننسى دور قطر في دعم حركات التدمير في العالم العربي، ولمصلحة مَنْ؟ هل في وسع الدوحة استيعاب ما يفعله دعمها المالي والاستخباري في تونس وليبيا ومصر وسورية والعراق؟ إنّ المستفيدين هم المعلمون الأصليون في أميركا و»إسرائيل»؟ واسمحوا لنا أن نسأل قطر: هل يستطيع «الثائر» السوري المزعوم أن يستفيد من تجربة نظامك السياسي المستنير فيقتدي بها…ونستدرك لنسألها عن طبيعة نظامها، وهو لفرط بدائيته يبدو بلا خصائص أو ملامح، ولا يظهر منه إلا صورة أمير مبتسم دائماً يستقبل ويودِّع.
ولا ننسى أيضاً الدور التركي واستحضار العثمانيين الذي احتلوا شرق العرب ومغربه منذ عام 1516، فنكلوا بالسوريين والعراقيين وكلّ العرب بالحديد والنار والإبادة، مخلفين وراءهم بلاداً مدمَّرة ومفككة.
هل نسي «الثوار» المزعومون أنّ كلّ الولايات العربية في مرحلة بني عثمان، تمرَّدت على الخلافة التركية المزعومة في مصر واليمن وغيرهما؟ حتى آل سعود أنفسهم حاربوا الأتراك الذين قتلوا أسلافهم وصلبوهم، وحاربهم أيضاً فخر الدين وبشير الشهابي في لبنان، والسوريون والعراقيون، ولم تبقَ ولاية عربية واحدة في بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة إلا وانتفضت في وجه بني عثمان. فمن أين أتى هذا الانسجام السياسي بين «الإخوان» والعثمانيين الحاليين بقيادة السلطان المتجدِّد أردوغان؟
إنّ هذا الحديث ليس موجهاً لـ»داعش» و»النصرة» وأشباههما، فهؤلاء سقطوا إلى الأبد من تاريخنا وليسوا إلا مجموعة من البرابرة يموّهون همجيتهم بتفسيرات مجنونة لدين بريء منهم.
والمقصود هنا نوعان من المعارضة في الداخل والخارج لا يزالان متمسِّكان بالحدّ الأدنى من الوضوح في الرؤيا. وحرصاً عليهما ولمنعهما من الانزلاق نحو الفكر «الثوري» المزعوم، فإنّ عليهما أن يحضّرا إجابات لعدة أسئلة أساسية، أولها: ماذا يجري في سورية؟ هل هناك حركة تغيير أم احتلال مدمِّر يضرب السيادة الوطنية؟ ما هو الجوهري أولاً، الوطني أم السياسي؟ والمعتقد أنّ الالتباس لا ينفع في درء الشبهات.
وفصيح اللغة لا يكفي لصيانة الموقف، لأنّ سورية تمرّ بتحولات كبيرة معظمها من العيار الوطني، فهناك اجتياح تركي ـ خليجي ـ غربي يأخذ شكل تدخل مباشر في بعض الأحيان وغارات «إسرائيلية» من حين إلى آخر، مع استقدام مقاتلين أجانب إليها من أقاصي الأرض.
إنّ تحديد موقف واضح من هذه الحالة الوطنية، يسمح لمعارضة الداخل ومعارضة الخارج بأن تشاركا في إنتاج موقف وطني يضع حدّاً للتدخل الغربي غير المسبوق، يلجم الأتراك ويقمع الأعراب معيداً إلى سورية تماسكها الوطني.
هذه هي المرحلة الأولى التي يُفترض بمعارضين مقبولين أمثال حسن عبد العظيم وهيثم منّاع وقدري جميل أن ينخرطوا فيها بقيادة الرئيس بشار الأسد لتحرير نحو أربعين في المئة من سورية ينتشر فيها هذا الوباء المدمِّر.
ولا بدّ أن تلي مرحلة التحرير ضرورات إعادة بناء نظام سياسي، برنامجه إعادة إعمار البلاد وتوسيع المشاركة السياسية، وهذا ما كان سيحصل في سورية عملياً، لأنّ رعاية الدولة للطبابة والتعليم والمواصلات هي المنتج للطبقة الوسطى في كلّ بلدان العالم، ولا ديمقراطية، أيها السادة المعارضون، من دونها. فالديمقراطية لا تبنى بالابتهالات والتبني، بل هي مشروع اقتصادي اجتماعي سياسي ولا يكفي مجرد إعلانها لكي تصبح موجودة.
فيا أيها المزعومون، اخجلوا من أنفسكم…تذهبون أنتم وتبقى سورية ويبقى السوريون الشرفاء والأمل الحقيقي بالتغيير والسيادة الوطنية والكرامة.