المسيح من فلِسطين إلى العالم
ماهر الرياشي
أيامٌ قليلةٌ تفصِلنا عن ذكرى ميلاد يسوع المسيح، وهي محطةٌ للتأمّل في حياتِه وسيرته وأعوامه الـ33 التي عاشها مُبشّراً برسالة سامية عَمَّت العالم بأسره، وأضحت ديناً يَعتنقه المؤمنون بعد عهود طويلة من الاضطهاد والملاحقات لنيِّف ومئتيّ عام إشارة إلى أنّ شعار المسيحيّين الأوائل إبان الاضطِهاد السمكة وليس الصليب وهي أيضاً دعوةٌ لنستذكر خلالها مَن حاربوه ونكَّلوا به وصلبوه واحتلوا أرضه فلسطين وما زالوا، ونسَبوها إلى أسطورة ميعادهم و»يهوهم» الخُرافيّ الذي سيأتي لاحقاً بعد تطهير الأرض من الفرات إلى النيل، وتنقيتها تماماً من «الغوييم» على اعتبار أنهم «شعـب الله المُختار» فلاحَقوه وهو طفل ووالدته مريم بنت عمران، وهجَّروه من بيت لحم الناصرة إلى مصر، ثمّ عاد واستشهد فيها فكان بمفاهيمه الجديدة ثورةً عليهم وعلى معتقداتِهم وعاداتهم الغريبة كلها توراةً وتلموداً وأفعالا.
فرسالته النقيض التامّ لحقدهم وعنصريتهم، فجدَلَ السوط وطردهم من الهيكل، واصفاً إياهم بأبناء الأفاعي الذين جعلوا من هيكله مغارة لصوص فكانت المحبة هي الأساس، والخير والتسامح هما المُبتغى، فقال عنه الأديب جبران خليل جبران في رائعته المسيح إبن الإنسان : لقد كان عاصفةً هوجاء تكسرُ بهبوبها كلَّ الأجنحة المُعوجّة.
ميلاده في مذودٍ صغير وحياته الزاهدة بكلّ شيء مِثالٌ وقدوة، «السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت»، إعدامه بالصلب عبرة، شأنه شأن العظماء الذين استشهدوا في سبيل أفكارهم، فلا أنبل وأصدق ممَّنْ يختِمون رسالاتهم بدماءهم فهو المُعلّم الثائر المُتواضع في آن المُنحني لأرجُل تلاميذه ومُريديه وَحدَها السنابل المُمتلئة تنحني وفارغات الرؤوس شوامخُ .
هذه المناسبة بكلّ بهرجاتِها وأضوائها الساطِعة جداً ليست سباقاً للتباري بأعلى شجرة وأجمل زينة وأوسع مَغارة وأقوى إضاءة وأفضل هندام مزركش لجوقة مرنمة، وأكبر عدد ذبائح إلهيّة وأرضيّة… واللائحة تطول وتطول بتفاصيلَ مُذهلة تُبعدُ أكثر فأكثر عن الأساس الجوهريّ الذي أراده مُطلقها، فهي دعوةٌ دائمة لإعادة المسيحيّة إلى أصولها الحقيقية كرسالة نبيلة للإنسانيّة جمعاء، وإخراجها من أتون الطقوس الضبابيّة والشكليات التي ألصقت بها إلى حَدّ الشعوذة، معتقِدين بذلك تكريماً لها فكان العكس لدرءِ الأخطار المحدقة بها من كلّ حدب وصوب من داخلها بـفصلٍ تام بين العهد الجديد بأناجيله الأربعة يوحنا متى ـ مرقس لوقا وتحريفاته واجتهاداته، وبين العهد القديم التوراتيّ عملاً بمقولة أحد كِبار الحكماء الإغريقيين عندما سُئِل كيف تواجه خصومكَ؟ فقال: بإصلاح نفسي.