«جدليّة الميدان العسكريّ والحلّ السياسيّ» في طبيعة العدوان على سورية وصدّه عنها!
خالد العبّود
أمين سرّ مجلس الشعب السوري
لم يكن مطروحاً مفهوم «الحلّ السياسي» في سورية منذ مطلع العدوان عليها، حيث كان العدوان يقوم على عنوان واحد وحيد، وهو: «إسقاط النظام»، ومعناه إسقاط الدولة، واستبدال سلطتها القائمة بسلطة أخرى بديلة، مقارنة بما حصل في بلاد عربية أخرى، مرّ بها ما سميّ بـ «الربيع العربي»، مع الانتباه إلى الانزياح الحاصل في المشهد العام لهذا «الربيع»، في ظل صمود سورية وانكفاء المشروع في بعض رئيسياته.
إن مفهوم «الحلّ السياسي» كان مركوناً جانباً، أو قل بأنه كان مرفوضاً في المطلق، أو لم يكن وارداً أساساً، من قبل قوى سياسية كانت رئيسية في العدوان وفي مشروع إعادة إنتاج خريطة جديدة للمنطقة، في حين أنّ قوى أخرى كانت تميل باتجاه أنّه لا يمكن أن يكون في سورية إلا «الحلّ السياسي»، وهي القوى التي وقفت إلى جانب الفريق الوطني الذي يقود الدولة، ليس من باب قناعتها بأنّ هناك أزمة سياسية في سورية، بمقدار ما كانت حريصة على إسقاط ذريعة العدوان ذاتها، من يد أصحاب هذا العدوان أو هذا المشروع، على رغم إيمانها العميق أيضاً بأن السلطة القائمة تعاني كما تعاني أيّ سلطة على مستوى العالم من عيوب هنا وعيوب هناك.
«الحلّ السياسيّ» المطروح من قبل قوى انزاحت باتجاه الإبقاء على الدولة السورية والدفاع عنها، في وجه هذا المشروع الكبير، كانت تعتبر أنّه «حلّ» يقوم على مجموعة من المعاني والمفاهيم التي تمكّن قوى سياسية معينة استُعملت في سياق العدوان على الدولة من الانسحاب من حالة الاستعمال تلك، وبالتالي الذهاب إلى «عملية سياسية» تعيد أنتاج «السلطة» في سورية، وطالما أنّ هذه القوى موجودة وفاعلة، أو يجب أن تكون «فاعلة»، فإن العملية السياسية يجب أن تقوم على محطة انتخابية تكون أساسية في هذه العملية، الأمر الذي سيعيد تحديد خريطة القوى السياسية وحجومها وحضورها أخيراً في مربع السلطة.
أدركت قوى العدوان أنّ هذه «العملية السياسية» سوف تعيد إنتاج خريطة لا يمكنها أن تكون بعيدة عن خريطة وطنية تقود الدولة السورية في لحظتها، وبالتالي فإنّها اعتبرت أنّ المغامرة باتجاه «عملية سياسية» تقوم على رئيسية انتخابات عامة لن تكون في صالح «قوى» كانت تدعمها، أو حتى أوجدتها، الأمر الذي أبقاهم منشغلين بعملية سياسية لها شكل واحد وهو أن يترك الفريق الوطني الذي يقود الدولة السلطة في سورية، وأن يتم تسليم هذه السلطة لفريق آخر أعدته قوى العدوان ذاتها، وهذا ما تجلى بمطالب كانت واضحة في هذا السياق لجهة تسليم السلطة إلى «فريق سياسي» كان قد عبر عن ذاته بأكثر من شكل وأكثر من محطة.
لم يبق أمام قوى العدوان إلا أن تحسم عناوين محدّدة في الميدان كي تملي على الدولة السورية مطالبها، وبالتالي كان لا بد لها من إلحاق الهزيمة المطلقة بمؤسسة الدولة، أو إلحاق الهزيمة بفضل السيطرة الفاعلة والناجزة على رؤوس ومفاصل جغرافية ومؤسسية تؤثر سلباً على قدرة الدولة وطاقتها، وهذا ما لم تستطع قوى العدوان أن تقوم به.
في كثير من الأحيان كانت هذه القوى، كما هي بعض أدواتها السياسية، تعيش حالة افتراضية عامة، تقدم ظاهر هذه الحالة على جوهر المشهد وحقيقته، حيث اعتبر البعض أنّ هذا الظاهر الميداني هو جوهر في ذاته، حين فاتته تفاصيل المواجهة الاستخباراتية الواسعة والهامة، وبنى على ما هو ظاهر أو حتى مظهّر، الأمر الذي أوقعه في وهم «حلّ سياسيّ» يقوم على حسابات ميدانية افتراضية، حيث تم الحديث عن السيطرة على 70 في المئة من أراضي الجمهورية العربية السورية، وعلى أنّها سيطرة لصالح ما سميّ بـ «المعارضة»، وعليه فقد تم بناء تصوّر سقوف مطالب سياسية لا تبتعد عن مقولات مثل «تسليم السلطة» والتي تعني أخيراً «إسقاط النظام» لكن بلغة ربما كانت مرققّة.
عندما جاء «جنيف 2» كان هذا التصوّر سائداً وربما غالباً على كل تفاصيل مشهد المواجهة من قبل البعض الذين حضروا إلى «جنيف»، وهنا كانت الفارقة الحاسمة باعتبار أن كثيرين ظنّوا أنّ فريق الدولة السورية حضر ضعيفاً وباحثاً عن مخرج ميدانيّ، كون أنّ هناك «سيطرة» بالغة على مساحات هامة من جغرافيا الوطن السوري، وهو الأمر الذي دفع بهؤلاء أن يضعوا حساباتهم على هذه الفرضية وهي فرضية وهمية غير حقيقية أو واقعية، الأمر الذي جعلهم يقدمون مطالبهم السياسية التي لا توافق منجز الميدان أو خريطة ناتج الاشتباك، مما دفع بهم إلى المربع رقم صفر في حيثيات المواجهة والعدوان ذاته.
لا نخفي اعتقادنا أنّ هؤلاء لم يكونوا الوحيدين الموهومين بهذا الواقع الافتراضي، أو قل الواقع الغامض، بمقدار ما نجزم أن الإدارة الأميركية لم تكن قادرة على تفكيك أو فهم خريطة الاشتباك الأمني والاستخباراتي على الأرض، وهو الذي جعلها تذهب مذهب أن تأخذ بالمقولة الهامة لجهة أنّ الفريق الذي يقود الدولة السورية كان قادماً كي يبحث عن مخرج ميداني له.
لهذا رأينا أن ناتج الميدان هو الأساسي في المشهد، وهو ما عملت به واشتغلت عليه القيادة السورية منذ اللحظات الأولى، وهو الذي دفعها كي تكون حاضرة ومشدودة باتجاه عناوين لها علاقة بطبيعة هذا الميدان وأفخاخه، وهو الأمر ذاته الذي جعلها دائماً دائمة الملاحقة لفحص مادة الميدان وخريطته، ونعتقد في هذا السياق أنّ أهم الأطراف التي كانت خابرة وفاهمة طبيعة توضعات هذا الميدان هي القيادة السورية، وهي التي استطاعت أن تبني عليه واقعياً وليس افتراضياً.
ربما كان «الحلّ العسكريّ» أساسياً بهذا المعنى، كما كان الحاسم لجهة عناوين لها علاقة بالبيئة الصاعدة أو الناشئة على التي تؤسس لفضاء «الحلّ السياسيّ»، وبالتالي فإنّ أي «حلّ سياسيّ» لن يكون بعيداً عن بيئة عسكرية أنجزها الميدان وناتج الاشتباك العسكري، الأمر الذي دفع «الحلّ العسكريّ» كي يكون أساسيّاً في المشهد العام للمواجهة، في حين أنّ أيّ أفق لـ «حلّ سياسيّ» كان يجب أن يكون محمولاً على ناتج الاشتباك الميداني وليس حاملا له!.
هذه الجدلية الأساسية والفهم الدقيق لطبيعة مجريات العدوان وصدّه كانت واضحة في ذهن القيادة السورية، في حين أنّ أطراف العدوان لم تكن قادرة على تمرير هذه الجدلية بالطريقة التي تريدها، فقد ظل ناتج الميدان غير مفهوم بالنسبة لها، كما أنّها فقدت بعض خطوطها وأضلاعها الميدانية في أشد اشتباك استخباراتي شهده تاريخ المعارك المركبة، وهو الذي جعل القيادة السورية واثقة مما تفعل، وفاهمة بدقة كيف ترعى هذه الجدلية إيجاباً لإنتاج فضاء وبيئة ميدانية تقدم أفق «حلّ سياسيّ» لا يُذهب الدولة السورية ودورها على مستوى المنطقة!