«الربيع العربي» المزعوم في المعصرة التونسية
د. وفيق ابراهيم
الانطباع الأول الذي يمكن استنتاجه من الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تونس، أنها سدّدت ركلة قاتلة إلى منتحلي صفة «ثوار» وألقت بهم مجدّداً في غياهب العمل السري الأسود.
تونس مع «البوعزيزي» الذي أحرق نفسه قبل سنوات عدة، احتجاجاً على الفقر والبؤس، «تونس» التي أعلنت في ذلك التاريخ بدء حركات احتجاجية ذات طابع اجتماعي وانتقلت إلى أكثر من بلد عربي تحت اسم «الربيع العربي» الذي تبناه الإعلام الغربي مهللاً لانتشار «الديمقراطية التكفيرية» في العالم الإسلامي.
فما الذي جرى حتى عادت تونس الخضراء إلى إسقاط «ربيع» هي مَن أنجبه؟
بداية، تتابع اندلاع حركات احتجاج في مصر وليبيا والمغرب وسورية بعد انفجار الأوضاع في تونس، وكانت احتجاجات مطلبية الطابع تنادي بإصلاحات اجتماعية محقة. وجاء الإسناد الإعلامي الغربي والخليجي محرِّضاً باتجاه تغييرات سياسية وتلاه إسناد من نوع آخر استغلّ براءة الشباب العربي مالئاً الأرض سلاحاً ومالاً و»مجاهدين» أتوا من أقصى الأرض تحت رايات حزبية تمثل فريقاً «إسلاموياً» انقسم إلى شريحتين: إخوان مسلمون مدعومون من تركيا وقطر ولهم روابط مع السياسة الخارجية الأميركية كما اتضح لاحقاً، وسلفيات متشدّدة مشتقة من «القاعدة» ومدعومة من الإسلام الوهابي وبعض الغرب.
فأصبح المشهد في بلدان الاضطرابات مقسوماً بين شبان يريدون التغيير بأشكال سلمية وهم غير منظمين وليس لديهم رايات حزبية وإعلام ومال وإسناد إقليمي ودولي، والإسلاميون السلفيون التكفيريون ورفاقهم في الإخوان المسلمين وهؤلاء يحوزون على تأييد مئات المحطات التلفزيونية والدعم بالمال والسلاح والتدريب والحدود المفتوحة والمقاتلين من كلّ مكان والفنادق المفتوحة في تركيا والخليج وأوروبا.
وهكذا امتطى الإسلاميون في العالم العربي ظهور فريق الشباب غير الحزبي محولين البلاد إلى جبهات حرب وتفجير وقتال وتهجيز. وفتحوا الحدود لكل أفّاق متشدّق محولين الإسلام إلى جهاد نكاح واغتصاب وقتل وسلخ وتهجير.
وظهرت ملامح المشروع الإسلاموي المدعوم غربياً، بإمارات إسلامية، تعيد إنتاج أنظمة عمرها آلاف السنين بفكر غيبي يقدمون له تفسيراً من همجيتهم.
وتساوى السلفيون التكفيريون مع الإخوان المسلمين في رفض الأنظمة السياسية المعاصرة والقوانين الوضعية، أما فكرة الانتخاب فمرفوضة من أساسها باعتبار أنّ «الإسلامويين» يعتقدون أنّ الله قد اصطفاهم على العالمين من دون مشورة أحد.
إزاء هذه المعطيات انكفأ الشباب العربي عن أداء الدور الذي بدأه مخلياً الساح للعصابات التكفيرية من دون أن يتمكن من إنتاج قيادات أو أطر حزبية وإعلامية خاصة به لضعف الإمكانات.
وهكذا تمكن السلفيون من دكّ مصر وتونس وليبيا وألحقوا دماراً هائلاً بسورية والعراق، وفجروا اليمن، ولم يُبقوا على شيء مستندين إلى راية دين هو براء منهم، كما أقدموا على فتح خطوط اتصال مع العدو «الإسرائيلي» من جهة الإخوان المسلمين في مصر في مرحلة «مرسي»، ومن جهة «داعش» و»النصرة» في الجولان السوري المحتل.
ومع استمرار الدعم الغربي ـ التركي ـ الخليجي للسلفيات المتكاثرة، توهّم الإسلامويون أنهم أمسكوا بتلابيب المجتمع، معتقدين أنهم نجحوا في التأسيس للفتنة السنية ـ الشيعية، متناسين أن لا وجود للشيعة في تونس ومجمل شمال أفريقيا ومصر. وهذا التناسي جعلهم يتلقون الضربة الانتخابية الأولى في مصر بنجاح الفريق السيسي الذي أعاد «الإخوان» إلى العمل في الظلام. وها هي تونس تسدّد لهم ضربة جديدة بإسقاط مرشحهم الرئاسي المنصف المرزوقي الذي كان يعتقد أنه مفتٍ يصدر الأحكام الشرعية والسياسية في آنٍ معاً.
أما أسباب هزيمة الإخوان في مصر وتونس فمردها إلى انسحاب فئات الشباب من ما سمي زوراً «الربيع العربي» بعدما اكتشفوا مدى هيمنة الإسلامويين على مشاريع تدمير البلدان العربية بذريعة أنّهم يريدون تشكيل اتحاد إسلامي واسع من باكستان إلى مصر وأندونيسيا والصومال ولبنان بجمع كامل العالم الإسلامي.
والشباب هم عادة قلب حركات التغيير لكنّ الإسلامويين طردوهم وأبعدوهم عن قيادة الحراك الفعلي في كلّ أنحاء العالم العربي، لذلك عاد هؤلاء ليلتحقوا بالموجات الانتخابية وكما بدأت لعبة «الربيع العربي» من تونس، من المتوقع أن تنتهي أيضاً في تونس.
فمتى تطرد ليبيا والعراق وسورية ما تبقى من السلفية التكفيرية؟ يؤشر مُقبل الأيام إلى أنّ انبلاج الفجر لم يعد ببعيد والجيوش لن تستكين إلا بعد تطهير البلاد من شر العباد.