الذاكرة وأوجاع المنفى في رواية «صخرة هيلدا» لهدية حسين
بين الواقعيّ والمتخيّل، تنسج الروائية هدية حسين مادتها السردية، راسمة خطوطها المختلفة الاتجاهات والمسارات من معين ذاكرة مشبعة بسيل من الحوادث التي تنتمي إلى مقاطع زمنية مختلفة لكنها متقاربة لناحية التتابع الزمني الذي أفضت سيرورته الديناميكية في جعلها تلحق بركب المهاجرين قسرا من أبناء جلدتها، يلقي بها قطار الهرب من جحيم واقع البلد في أتون المنفى الكندي البارد بتفاصيله كافة، علّه يطفئ شيئا من جمر الذكريات المريرة التي ازدحمت بها ذاكرتها. وتنتج عن تفاعلاتها حالة من الإرهاق الذهني فتقصد إحدى عيادات الطب النفسي في عمان، على ما يرد في سياق النص.
تدخلنا الروائية هدية حسين في رحلتها السردية المتميّزة بسلاسة اللغة واستثمار جمالياتها التي طوعتها لعدة مستويات وفقاً لطبيعة إنتاج المعنى وتوالد الافكار الكامنة وراءه، ففي مقاطع معينة نشعر بأننا أمام قصيدة شعرية مكثفة تنثر دلالاتها في إنسيابية.
في مواضع أخرى نشعر بأننا أمام مؤرشف يحاول الكشف عن تفاصيل الحدث بدقائقه الصغيرة مما يجعلنا كمتلقين أمام مشهدية حبلى بمفاجآت قد يطلقها الفعل الدرامي في أي لحظة، وساعد الفعل الدرامي في رفد الفعل السردي بقيم سيميائية تعبيرية. وتتعامل الروائية مع الذاكرة لتسجيل ما استعصى على النسيان من حوادث، وأماكن وأشخاص. ورغم أن الذاكرة تمثل ما مضى من أزمان، إلا أنها تتمظهر في هذا النص الروائي بيتاً دافئاً من بيوت التاريخ الذي ما زال محتفظا بصدى الحوادث، غارساً بصمته عميقاً في الذاكرة. ولا يتمكن النسيان ولا وصفة الطبيب النفساني من محوها يوماً، ما ساعد الفضاء السردي ووسعه ودعم إمكاناته التأويلية بالكثير من القيم التعبيرية والرمزية عبر آلية جعلت المكان السردي مساحة خصبة للبناء والقراءة والاستنتاج.
في معرض تأملنا للرواية التي تحمل عنوان»صخرة هيلدا» والصادرة حديثا لدى «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» يمكن القول إن العنوان يتجه في منحى معين ويبرز حالة العلاقة الاشكالية بين ذات الراوية الذي تسعى إلى مخاطبة الآخر الذي لا تجده في عزلتها القسرية، ما يجعلها تتجه نحو صخرة صماء آثرت عبر مونولوجاتها الطويلة أن تمارس لعبة البوح. وتطلق العنان لذاكرتها مستخدمة لغة تنهض بالبنية السردية ومعمارها وأدائها في وضع بؤرة مركزية تشظى منها العديد من الخطوط والشخوص والحوادث، بوصفها محاور تحيط بدائرة السرد المنطلق فعلها من الذات الراوية التي انهكتها لعبة الحرب والفقدان والحب، وأخيراً صراع التأقلم مع مفردات المنفى الجديد.
تبرز اللغة في هذا النص بفاعليتها وتدفقها، وتتجلى بوصفها من أبطال الرواية وهي نقطة إشعاع تغري بالتحليل والتفسير الشيفرة والإمساك بخيوط ترتيب المتن على النحو الذي يجعل القارئ في حالة تشوق متنقلاً بين فصول الرواية ليمسك بتلابيب الحوادث من خلال سياق متسلسل يشي بالجديد.
يتوزع متن الرواية على مجموعة من الطبقات التي تحيط بالمركز السردي الذي تدفعه الروائية في اتجاه نقطة المركز، لتتجسد العلاقة بين كل طبقة من خلال توليفة فريدة يتداخل فيها المخيال الفني مع الذاكرة، فتكشف لنا الروائية هدية حسين عن عوالم مختلفة جلها ـنتجها الواقع بوحشيته الناجمة عن جرعة القبح والخراب والحروب والفساد، وتعيد صوغه بلغة فنية جميلة بعيدة عن التعقيد لكنها تختزن طاقتها التعبيرية ضمن أنساقها. وتسجل يوميات العذاب بلغة التعبير والمجاز وتعيد قصها لصخرة صماء تدعى «هيلدا» تجثو على أديم أحد المنتزهات القريبة من محل إقامتها في هاملتون، كندا. وترى في هذه الصخرة الصدر الحنون الذي قد يسمعها ويحفظ أسرارها من التسرب ويتفهم قلقها ووحدتها ويستوعب هواجسها وإرهاصاتها الناتجة من شريط الذكريات وتقول إنها أضاعت نصف عمرها متخندقة بها.
تنتمي رواية «صخرة هيلدا» الى الكتابة الروائية الجديدة التي تبني عناصر أصالتها وفنها بوعي وفهم. تنطلق من قوة ذاكرة تعايش بشفافية خريطة الوطن وقت محنته فتسبر عالمه الداخلي الملتبس والمبني برؤيا إبداعية سيرورة درامية النابضة وإيقاع جميل، إذ تمسك الرواية بشفافية لغتها وحاستها الجمالية عوالم الشخوص، ضمن سياق مواز للعالم الخارجي من خلال شعورها بهول الحوادث التي عايشتها في بلد ما زال يعيش سوريالية الحدث.
تتدفق سيولة الذاكرة لدى الروائية هدية حسين لتحرك الرواية في اتجاه أداء بصري جمالي يفيض بشاعريته. وللقاصة والروائية هدية حسين العديد من المجموعات القصصية، بينها «قاب قوسين» و»تلك قضية أخرى»، المجموعة التي فازت بالجائزة الأولى عن أندية فتيات الشارقة هتك 1999 ، و»كل شيء على ما يرام»، مجموعة قصصية، «حبيبتي كوديا»، «ان تخاف رواية» و»بنت الخان رواية» و»ما بعد الحب» رواية ترجمت الى الإنكليزية عام 2012 ، و»في الطريق إليهم» رواية ، «مطر الله» رواية ، و»نساء العتبات» رواية ، «البيت المسكون»، فضلا عن دراسة تحت عنوان قراءة في القصة والرواية».