مدارات «نعم لفلسطين» بالبرتغالية… ماذا أيضاً؟
خضر سعاده خرّوبي
كرّت على مدار الأسابيع الماضية سُبحة الاعترافات من قبل برلمانات أوروبا، لا سيما المؤسسة التشريعة «الأم» فيها، بالدولة الفلسطينية. وقد عرج الإجراء المذكور من الباب غير الإلزامي في المؤسسات التشريعية لكلّ من إيرلندا وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا وأخيراً البرتغال واللوكسمبورغ، في حين خرجت الحكومة السويدية عن السرب وقرّرت الاعتراف رسمياً بـ»الدولة».
يمكن أن نعزو ذلك إلى الحرج الذي باتت تشكله السياسات «الإسرائيلية» للدبلوماسية الغربية التي كان العدوان الأخير على غزة أحد أبرز تجلياتها، خصوصاً عند الأخذ في الاعتبار ما كان يُتداول قبل فترة وجيزة عن عزم الدبلوماسية الفرنسية على الاحتفاظ بالاعتراف كسلاح قابل للاستخدام في التوقيت المناسب في وجه «إسرائيل».
ليس من الممكن القول إنّ تداعيات تلك القرارات غير الملزمة، بمعظمها، ستطرح عقبة أساسية أمام التعنت «الإسرائيلي» المتواصل في مواضيع شتى تشكل عقدة الخلاف الأوروبي مع تل أبيب كمسألة التوسع الاستيطاني، ومخططات فرض الأمر الواقع على القدس والمقدسيين، إضافة إلى الإصرار على مطلب «الدولة اليهودية» وما يشكله من خطر حقيقي على فرص حلّ الدولتين.
وصحيح القول إنّ الفلسطينيين ليسوا قاب قوسين أو أدنى من الحصول على أقصى أمانيهم، إلا أنّ الخطوات البرلمانية المشار إليها، تبقى في المعنى السياسي والرمزي، إذا ما أضفنا إليها قرار شطب حركة حماس عن لائحة الإرهاب الأوروبية، بالغة الأهمية. فالجميع ضاق ذرعاً بممارسات نتنياهو المغالية في تطرفها وتملصها من التزاماتها تجاه ما يسمى عملية السلام، والتي يقف على النقيض منها قطاعات واسعة من المعارضة داخل «إسرائيل» وخارجها، وتحديداً من الجانب الأوروبي الذي اتخذت بعض أطرافه إجراءات عملية على صعيد مقاطعة بضائع المستوطنات، وحتى من «الحليف» في واشنطن.
أما العواصم الأوروبية العريقة في حقيقة دورها والتزاماتها التأسيسية في ما يتعلق بنشأة آخر وأبشع أشكال الاستعمار الذي تمارسه دولة الإرهاب في فلسطين المحتلة، فإنها تجد نفسها اليوم في واقع الأمر أمام لحظة الحقيقة لجهة الاعتراف بالدولة الفلسطينية أمام موجة التأييد المتنامية في أوساط الرأي العام فيها والمؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني بهذه الدولة المستقلة، غير الموجودة إلى الآن، إلا في تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية التي يراها كثيرون أقرب إلى اللاسلطة منها إلى السلطة.
أمام كلّ ذلك، عبرت «إسرائيل» عن صدمتها مستعينة برواياتها عن «المحرقة» وما تعتبره «مظلومية تاريخية» تعرض لها اليهود في أوروبا، كما أنها لم تتوانَ عن وصف تلك التحولات في الموقف الأوروبي بـ» التسونامي السياسي الدولي»، في حين كان الفلسطينيون في صدد إعلان تحركاتهم المقبلة باتجاه مجلس الأمن.
وفي دوافع اعتراف فرنسا وبريطانيا تحديداً، يتوقف محللون عند الجرأة البريطانية ومن ثم السويدية في السبق السياسي الذي سجلته في هذا الخصوص، ما ساهم في طرحه بقوة على مستوى المشهد السياسي الأوروبي العام. وبين ستوكهولم من جهة، وباريس ولندن من جهة أخرى، تكمن فصول أخرى من الحكاية التي لا تتعلق فقط بالفارق الجغرافي بينهما، وإن كان له دوره في جانب أو آخر في فارق السياسات. فالسويد، حالها حال شقيقاتها في البيت الاسكندنافي، ولاعتبارات تتصل بابتعادها النسبي من التجارب الاستعمارية والاهتمامات الشرق أوسطية، تميل إلى تبني سياسات أكثر توازناً وانسجاماً مع مبادئ القانون الدولي. ولستوكهولم سوابق سياسية في نقد السلوك «الإسرائيلي»، كما هي الحال بالنسبة إلى موقفها من الجدار العنصري.
وفي سبيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، قاومت المملكة المسالمة، التي تحتل غالباً صدارة الدول الأفضل للعيش على مستوى العالم لما يتمتع به نظامها السياسي والحقوقي والاجتماعي من مزايا دولة القانون والحكم الرشيد ومعدلات التنمية البشرية المرتفعة، ضغوطاً مورست عليها من دوائر في تل أبيب وواشنطن لكبح مسارها في هذا الاتجاه. ويحفظ التاريخ لنخب من تلك الدولة كالكونت برنادوت ورئيس الوزراء أولوف بالمي اللذين قضيا اغتيالاً سجلات تشهد على اقترابهم في أكثر من مرة من مقاربة الحقوق العربية بموضوعية تفوق تلك التي قامت بها عواصم الاستعمار بوجهيه القديم والجديد، ممن كانت وما زالت تطرح نفسها على أنها «الوسيط النزيه» و»المحايد» الذي لا غنى عنه في حلّ القضية الفلسطينية، وهو ما يتوافق مع ما يطرحه كثير من العرب منذ زمن بالقول إنّ 99 في المئة من أوراق الحلّ هي في يد تلك العواصم. على النقيض من ذلك، وبموازاة ميل بعض المحللين إلى الحديث عن الدور الفرنسي في إبراز رهانات القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، يذكّر آخرون بالتاريخ وطبيعة الأدوار المشبوهة لدول أوروبية في الوقوف خلف المشروع الصهيوني نووياً كفرنسا، وسياسياً كبريطانيا عبر «وعد بلفور» الشهير، وهذا، من دون أدنى شك، يُكسب الاعتراف معنى لافتاً. أما اليوم، فإنّ قوى سياسية، توصف بأنها هامشية في ميزان القوى الداخلية، هي التي تدعم تلك التوجهات بشكل جدي وأساسي كي تأخذ طريقها «البنّاء» على مسار الحلّ الفلسطيني- «الإسرائيلي»، وهذا في حدّ ذاته ، قد يشكل عين الأمل وأشد محبطاته في الوقت نفسه، أمام التفاؤل بخطوة اعتراف دول أوروبية كفرنسا وبريطانيا والبرتغال وغيرها بالدولة الفلسطينية. ولا يخفى القول بأنّ اللوبي الصهيوني ما زال يحظى بالفاعلية السياسية في عواصم أوروبية عدة لا سيما باريس، وإن كان المطلب الفلسطيني «الدولتي» يحظى كذلك بالشعبية. فأية حظوظ قد يتركها ذلك على الحلم الفلسطيني بـ»دولة»، نأمل ألا تبقى حلماً في خيال كثيرين من المحيط إلى الخليج، وأن تكون بمقاييس الحقّ التاريخي للفلسطينيين بفلسطين؟