مهزلة «داعش»… والثقافة الإنسانية السورية
د. حسام الدين خلاصي
بعد الغوص العميق في الثقافة السورية، يعرف القاصي والداني أنّ سورية لم تكن يوماً بؤرة للتطرف الديني، إلا في العصر الذي تلا استنبات الكيان الصهيوني الغاصب على أرض بلاد الشام وانتشار فيروس سايكس بيكو اللعين، واقتناع العرب وخاصة أمراء الخليج بأنهم ملوك على رمال نفطية متحركة، بينما كانت بلاد الشام والرافدين والنيل تموج بروح العروبة الثائرة رافضة هذا الشكل من التقسيم، فأوغلت ملحقات سايكس بيكو في تكريس التجزئة، وصدَّق العرب أو غالبيتهم في النهاية أنهم دول مستقلة ومنفصلة، لكلّ منها رأيها السياسي، ما سهَّل للصهيونية القابعة في فلسطين مهمّة استبدادها.
وتوالت الحكاية وآراء العرب المتضاربة حول كيفية حلّ مشكلة فلسطين ما بين مُطالبٍ بالتحرير الكامل وموافقٍ على حلّ الدولتين، وعلى خلفية النظريتين، توصلنا إلى أوسلو وإلى المبادرة السعودية المخادعة في مؤتمر بيروت.
بقيت سورية وقيادتها الناظر الأمين، في ظلّ التخاذل العربي قديماً وبصورة فاضحة بعد حرب «الدواعش»، وحاولت ولا تزال تحاول استنهاض العرب. إلى هنا والحال كان مقبولاً لأنّ المقاومة كانت السبيل إلى عدم نسيان الحقّ العربي، ذلك أنّ اتفاقية كامب دايفيد كانت بداية التطبيع مع عربان وقيادات عربية بدأت تسحب شعوبها باتجاه النظرة «الصديقة» إلى الكيان الصهيوني.
ولأنّ العرب تناموا في هذا الاتجاه، اتجاه التخاذل والهوان، ولأنّ الكيان الصهيوني أفعى لا تقبل إلا بقتل فريستها، اشترت دوائر الاستخبارات الصهيونية وموسادها الذكي، بالتعاون مع أعوانهم في المخابرات الأميركية، ملفّ الإسلام السياسي المعتدل وملف الإرهاب الإسلامي الوهّابي، وضمنت «إسرائيل» للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وبعض الدول الأوربية الأخرى، ما عدا ألمانيا الحديثة والتي لم يثبت تورطها والتي لا تؤمن بنظرية تصفية البشرية على أساس عرقي ومذهبي لأنّ لها ماضٍ هتلري كبير في ذلك، مصالح اقتصادية مهمّة، بات الجميع يعرفها في مجال الغاز والنفط وموارد المياه والغذاء في المنطقة على أنقاض حرب سنية شيعية تلتهم المنطقة وتؤسِّس لتدخل أميركي مزعوم لنجدة العالم ونجدة أميركا.
وكان ما كان من ربيع عربي إسلامي وهّابي، بتخطيط صهيوني فائق التنظيم، وتهاوت دول المنطقة حتى وصل الفيض إلى سورية والتي قُدِّر لها أن تُعلن منها «الدولة الإسلامية» ومن ثمّ «دولة الخلافة»، بعد أن جرى استجرار كلّ الإرهاب المدرَّب أميركياً وبريطانياً وتركياً من دول العالم إليها وإلى العراق، ليقود رعاع من تفلت من الدائرة الوطنية أولاً، ومن صُدِّر من ممالك الوهّابية والخليج ومصر وليبيا وغيرها.
وفي سورية بالتحديد، خلافاً للعراق المسنود أميركياً، كانت المعركة الكبرى التي تدحرجت وبسرعة مذهلة ومضحكة ومؤلمة في آنٍ معاً، من مظاهرات إلى «جيش حرّ» إلى «كتائب إسلامية» ثم «جبهة نصرة» وصولاً إلى «داعش» التي حملت فكراً مستهجناً وسلوكاً حيوانياً ما عرف التاريخ شبيهاً له، لذلك تبين للقاصي والداني أنّ المقصود هو الترهيب وليس الترغيب، وأنّ الداعمين لمشروع «داعش» هم أنظمة تسعى إلى تكريس يهودية الكيان الصهيوني، عبر استخدام عناصر مدرَّبة ومعدَّة عقائدياً عبر فكر الوهّابية والقواعد العسكرية الأميركية وبمغريات مالية مسروقة أو مورَّدة من دوائر خليجية.
من كلّ ما سبق، وبحثاً عن من تصدى للفكر «الداعشي» من بلدان أكلها الربيع المزيف، سنجد أنّ «داعش» لم يستطع اختراق الثقافة السورية العريقة وأنّ الشعب السوري، متذكراً عراقته، تماسك بعد الاستفاقة من الصدمة الأولى ورفض ولفظ وتصدى للفكر الظلامي ورفض التطبيع معه وساند جيشه العقائدي ذو التاريخ العريق في حمل هموم العرب، واليوم في التصدي لتشويه سمعة الإسلام والمسيحية على حدّ سواء، بصورة علمانية كما هي الثقافة السورية.
استطاع «داعش» امتصاص بعض أولئك السوريين المنفلتين من سوريتهم والذين تدربوا طويلاً في مهلكة آل سعود والذين غسلت الوهّابية عقولهم، فانخرطوا وراء وهّابية مالية استجرت عقولهم نحو صرف الأنظار عن العداء للصهيونية، لاستعداء دول آزرت سورية، أي روسيا وإيران والصين.
تلك الكتلة من السوريين أُتخمت بدولارات السعودية والنفط السوري والنهب والسلب، واستباحت دماء البشر من أبناء ووطنها فاستحقت العقاب، وهذا ما يفعله الجيش العربي السوري لأنهم انسلخوا عن سوريتهم. لكنّ الثقافة السورية تسامحت، كما دائماً، وفتحت باب المصالحة الوطنية لمن استفاقت فيهم سوريتهم، ورغم جرائم هؤلاء، انفتح صدر السوريين لهم في لحظة استفاقة وتسامح.
تلك هي الثقافة السورية السمحاء التي تنسف معتقدات «داعش» المستورد خصيصاً لتدمير سورية. تلك هي الثقافة التي تصاحبت مع عزيمة قوية لدى الجيش السوري، وصمّمت أن تدافع بقوة وبأس شديدين عن نفسها وأثبتت للعالم صلابتها. وجدير بالذكر أنّ معدل انتشار الجريمة بكافة أنواعها، بدافع الحاجة في المجتمع السوري في المحافظات التي تسيطر عليها الدولة السورية أثناء الأزمة يصل إلى صفر في المئة، بعيداً من جرائم «داعش» الإرهابي وجرائم العصابات المنظمة الناشطة مافيات الإجرام الموجودة أصلاً قبل الأزمة ، وهذا يدلّ على منسوب الأمان السابق والمستمر والمنبثق من الثقافة السورية.
ومن هنا الرهان… الثقافة الإنسانية السورية في مواجهة ثقافة «داعش»، ستنتصر.