نصّ بريشتيّ مُسقط على الراهن السوريّ
كتب سامر اسماعيل من دمشق ـ سانا : تجاوز أيمن زيدان القوالب المسرحية الجاهزة في عرضه الجديد «طدائرة الطباشير»، منتصراً للمسرح الملحمي الذي أراده حافلاً بحيوية المسرح وقربه من الجمهور، خاصة لناحية اعتماده على كل العناصر الفنية التي من شأنها تعزيز الفرجة المسرحية والصعود بها نحو جدلية الفن والحياة وضرورة كل واحد منهما للآخر.
يعود زيدان في مسرحية «دائرة الطباشير» على خشبة مسرح الحمراء بالجمهور إلى أجواء العروض المسرحية الكبرى التي لطالما لمع فيها اسم هذا الممثل والمخرج القدير كأحد أبرز المسرحيين الذين يعلون من شأن السينوغرافيا والتوضيب المسرحي جنباً إلى جنب مع الاشتغال على الممثل من دون ادعاءات أو استعراضات مجانية، بل بالمضي قدماً نحو جوهر اللعبة المسرحية حيث هذا الممثل نقطة مواجهة بين عالمي التقنية والأداء الحر على الخشبة.
اختار زيدان نص الكاتب الألماني برتولت بريشت لعرضه الذي شاركه فيه أكثر من خمسين فناناً تقنياً وفنياً في مديرية المسارح والموسيقى التي تشهد اليوم حراكاً كبيراً في المهرجانات والعروض الفنية نوعية، و»دائرة الطباشير» ذروة هذه العروض التي اشتغل عليها مبدع مسرحية «راجعين» بعد غياب لأكثر من ست سنوات، إذ تروي المسرحية حكاية قديمة جديدة عن عدالة القضاء في أحقية تبني الطفل بين الأم التي ربت والأم التي أنجبت، في إسقاط على هموم معاصرة على الحياة السورية الراهنة.
يطرح العرض في أسلوب درامي وجدلي شائق صراع الطبقات الاجتماعية والتقلبات التي تتعرض لها في ظل الحروب الكبرى والنمو الطفيلي للوبيات الفساد والظلم والسرقة والخيانة الوطنية، في ظل النزاعات على المال والمناصب، ويكشف العرض بشاعة التخمة والرفاهية التي يرفل فيها الأغنياء وحديثو النعمة، خاصة في المجتمعات البورجوازية وما تعانيه الطبقات الاجتماعية الأخرى نتيجة النهب المستمر لقوتها وحقوقها في العيش الحر والكريم.
يفتتح الفنان زيدان عرضه اللافت باستخدام مادة فيلمية لحروب طاحنة يدمجها مع حضور الممثلين على الخشبة، وفق أسلوب التغريب البريشتي المكرّس في العرض، من خلال الاعتماد على الموسيقى المرحة وعدم تعميق العلاقة بين الممثل والشخصية التي يؤدّيها، فضلاً عن استخدام مخرج العرض للأقنعة المحمولة من وراء الكتف، مع التأكيد على كسر الجدار الرابع وإمرار الممثلين بين مقاعد الجمهور واستخدام مقدمة الخشبة والاعتماد على قطع الديكور البسيطة بدلاً من الأثاث المسرحي الثقيل كما في مشهد الساقية ومشهد الجسر ومشاهد المحكمة.
يشهد عرض «دائرة الطباشير» حضوراً كبيراً نتيجة النشاط الواضح والكثيف لمديرية المسارح منذ انطلاق موسمها السنوي لهذا العام، وسجل شباك التذاكر إقبالاً مطرداً من الجمهور المتعطش إلى عروض المسرح القومي، خاصة في عرض «نبض» لمأمون الخطيب وعرض «روميو وجولييت» لعروة العربي وعرض «هوب هوب» لعجاج سليم، وذروة هذا الإقبال تتجلّى في «دائرة الطباشير» التي تضم مجموعة مميزة من الممثلات والممثلين الذين لم يهجروا خشبة المسرح في مقدمهم محمد حداقي وعروة العربي وأريج خضور ونور أحمد وخوشناف ظاظا وولاء عزام ووسيم ولوريس قزق وآخرون.
يعيد مخرج «دائرة الطباشير» المتعة المسرحية إلى جمهوره عبر الدمج المتواصل بين المفارقة الساخرة والمأساة، من غير اللجوء إلى الفجائعية والاستجداء الدرامي، محافظاً على أسلوب المسرح الملحمي الناقد حتى لشخوصه، ووفق أسلبة الأداء والاعتماد على طريقة التغريب التي اعتمدها بريشت في مسرحه منذ ثلاثينات القرن الفائت، منتقداً النازية، ومنتصراً لمسرح الشعب وفئاته المقهورة، خاصة في «الأم شجاعة» و»الاستثناء والقاعدة» و»رجل برجل»، وأفاد زيدان من هذا المسرحي الكبير لصوغ عرضه اللافت، موحداً أداء فريقه لتعزيز عناصر العرض الأخرى من ديكور وأكسسوار وأقنعة وإضاءة وموسيقى.
ترك زيدان «دائرة الطباشير» مفتوحة على جميع الأزمنة والأمكنة، حاذفاً من العنوان الأصلي كلمة «القوقازية» كدلالة على إمكان إسقاط مقولة العرض على يومنا الراهن، فرغم أن المسرحية قدمت بالعربية الفصحى إلاّ أن ذلك لم يمنع المخرج ومعد النص من ملامسة عواطف الجمهور وهواجسه الملحة واليومية، مقدماً مستويات عديدة من القراءة من غير إهمال عناصر اللعبة المسرحية التي يستخدمها بأسلوب فني راق ومدروس، قائلاً في كتيّب العرض: «كانت رحلتنا مع دائرة الطباشير مجهدة، إذ حرصنا في جميع تفاصيلها على أن نكون أوفياء في عرض مصائر شخوصنا وفي البحث عن إجابات جدية لأسئلة تؤرقنا».
«دائرة الطباشير» من إنتاج وزارة الثقافة المسرح القومي، مديرية المسارح والموسيقى، صمم له الديكور والأقنعة والأكسسوار نزار بلال، ووضع موسيقاه سمير كويفاتي والأداء الجماعي لجوقة «الفرح» مع حسام بريمو، وصمم الإضاءة أدهم سفر، والأزياء ريم شمالي، ووضع تصميمه الإعلاني للعرض زهير العربي، بتعاون إخراجيّ مع عروة العربي.