فنون شعوب المايا معرضاً في باريس… حضارة مبدعة في العمارة والنحت والرسم
ما كان هيرودوت يتصوّر أن الحضارات يمكن أن تنشأ بعيداً عن المياه، فالبلدان التي زارها مثل مصر وبلاد الرافدين والهند كانت هبة الأنهار التي تعبر أراضيها كذلك الحضارات الأوروبية منذ القدم. إنّما اتضح أنها ليست قاعدة عامة، فنهرا المسيسيبي والأمازون مثلاً لم تقم على ضفافهما حضارة، وشعوب المايا صنعت حضارتها بمعزل عن الأنهار.
الحضارة التي ظهرت قبل الميلاد بألفي عام، وامتدت من المكسيك جنوباً إلى هندوراس شمالاً، مرورا بغواتيمالا وبيليز، أقامها المايا في مدارات لا تناسب الفلاحة، وأرض معرّضة باستمرار للهزات العنيفة، وفي زمن كانت تفتقر فيه إلى كل ما مهّد لتطور الحضارات في الشرق والغرب، كالفلزات التي تصنع منها الأدوات والأسلحة، وتصاغ بواسطتها المجوهرات، فضلاً عن العجلات والعربات.
رغم ذلك، استطاع المايا أن يقتطعوا من الغابات مساحات شاسعة، بنوا فيها أهرامات ومعابد ضخمة، منحوتة ومزدانة مثل الكنائس، ثم ابتدعوا كتابة ينقشونها على حجر الأنصاب، وتقويماً خاصاً يعتمد على نظام الدورات في حساب الزمن وعلى ما يسمونه البكتون وحدة زمنية تعادل مئة وأربعة وأربعين ألف يوم ، وفناً غاية في الجمال.
عن ملامح هذا الفن ينظم متحف رصيف برانلي أو متحف الفنون الأولى في باريس معرضاً يضمّ أربعمئة قطعة جيء بها من متاحف مكسيكية عديدة ومن بعض المواقع الأثرية لحضارة المايا، ويقدمها في صيغة ثيمات متدرجة تكشف عن مهارة تقنية في فن صناعة التماثيل، وبراعة في تلوين الجدارايات، ودقة في صنع أدوات وتحف من الخزف أو اليشب.
أخذ المايا عن جيرانهم الأولميك فنون الهندسة المعمارية وبعض مبادئ الدين، قبل أن يفرضوا أنفسهم كحضارة من أهم الحضارات في القارة. وكان لهم من العلماء والبناة ما جعلهم يمدّون نفوذهم إلى أقاليم كثيرة، من دون أن يؤسسوا إمبراطورية، خلافاً لشعوب الأزتيك والأنكا. بل اكتفوا بخلق فيديرالية توحد مدناً كبرى كانت بمثابة دول مثل تيكال وكوبان وسيبال وأوكسمال التي بلغ عدد سكانها مئة ألف، يقوم في وسطها المعبد وحوله قصور شامخة مترامية الأطراف، ما يوحي أن تلك المدن كانت تطوّع لخدمة سكانها عملة ومزارعين كثراً، إما من العبيد أو من الأسرى. وكانت تلك المدن/الدول مستقلة بعضها عن بعضها الآخر، تخضع لسيطرة زعيم يسمونه «هالاش وينيك» الرجل الحق ، يمسك بيده السلطة العسكرية والسلطة الدينية.
في معرض رصيف برانلي ألوان من تلك الفنون المتفردة، بعضها يوحي الرقة والنعومة كمشخصة النساج المصنوعة من الطين المحمّى، وبعضها الآخر يوحي العنف كقناع مرعب من اليشب، تقدّم قطعها الأربعمئة لذاتها، أي في سياق غير الذي كانت توضع فيه للمقارنة بينها وبين فنون الفراعنة والإغريق والخمير. وصاغها المايا تخليداً لقادة وأعيان، أو تمثلاً للآلهة التي كانوا يعبدونها مثل يوم كاه إله الذرة، وشاك إله المطر، وكانوا يصورونها وفق رمزية مضبوطة، كشكل الجمجمة المستطيل وحَوَل العينين الذي يعتبرونه علامة خير، والفم المفتوح كي ينساب نفَس الحياة. كما تحتل أقنعة اليشب لديهم مكانة مهمة، وأيا تكن احتفالية أو مأتمية، مقدسة أو مدنسة، فإنّها تمثل أرواح الآلهة والبشر على حدّ سواء. وعلى غرار عالم الكونيات الذي اهتموا وصاغوا على ضوئه تقويمهم المشهور، تتبدّى كتابتهم المحفورة على حجر الأصنام والتماثيل معقدة، إذ ظلت طوال قرون تعصي الخبراء وعلماء الآثار، ولم يفكّ سوى عدد قليل منها في مدارج كوبان، حتى لو أنهم فهموا معناها وعجزوا حتى الآن عن قراءتها. ما يجعل إعادة كتابة تاريخ المايا أمراً صعباً، خصوصا أن أهمّ المخطوطات الهيروغليفية أتلفها الكهنة الأسبان في القرن السادس عشر، ولم تسلم إلاّ أربع نسخ من «الكوديكس» لم تكن كافية لفهم حضارة المايا لولا الحفريات.
الغريب أن هذه الحضارة التي أشرقت على تلك الناحية من العالم وسادت طوال قرون انطفأت في وقت وجيز كأنها لم تكن، إذ لاحظ علماء التاريخ والآثار أن عمليات تشييد القصور والمعابد توقفت فجأة بدءاً من عام 850، وبقيت الحظائر مهملة والقصور مهجورة والمعابد فارغة. وتحوّلت المدن إلى خلاء مقفر بعدما هجرها سكانها، ولم يبق منها غير معالم متداعية غطاها الشجر والحشائش والأغبرة. وغمر النسيان مدن المايا كافة. هذه النهاية الغريبة لا تزال تشغل الباحثين منذ قرن. وطرحت حول ذلك فرضيات، من قائل إن السبب كارثة طبيعية كفيضان عارم أو زلزال هائل أو عاصفة مدمرة، بينما لم تقف الأبحاث الأثرية على مدن أصابها دمار كاسح، بل هي مدن مهجورة. إلى قائل إن السبب وباء أتلف الأرواح بالآلاف، إنما لم يعثر على حفر جماعية للأموات يؤكد هذا الزعم. ويذهب آخر مذهباً رومانسياً زاعماً أن المايا الشغوفين بحركة الأجرام والنجوم والكواكب، لا بد من أنهم وقفوا على ما ينبئهم بكارثة ويدعوهم إلى ترك تلك المدن ليضربوا في الأرض بحثاً عن ملاذ. والثابت أن تلك الشعوب التي انتصرت على الغابة غمرت الغابة بعد قرون ما بنته، كأنها عادت لتثأر لنفسها.