مدارات مات الملك، عاش الملك!
خضر سعاده خرّوبي
ينشغل العالم حالياً بالرصد والتفاعل مع الأحداث الأخيرة المتبقية على روزنامة العام الحالي، قبل أن يشرّع أذرعه لاستقبال عام نأمل أن يأتي بجديد. قد يطول الشرح إذا ما خضنا في تفصيل الأحداث التي جرت عام 2014، بيد أنّ كثيراً منها لا يحظى بذلك الحيّز الزمني الكبير للبقاء خارج الأرشيف، فيتوقف عند حدود عام انطوى. على العكس تماماً، فإنّ الأحداث التي تكتسي صفة الأهمية لا تُعطى الحيّز ذاته كي تصبح مادة أرشيفية قلما نرجع إليها، إنما تبقى محط اهتمام ومتابعة دائمين. وهي لا شك سترافقنا بتداعياتها إلى العام المقبل، إنْ لم يكن لأعوام مقبلة. وقد سجل شريط الأحداث خلال عام 2014 ما يهمّ، وكالعادة حظيَ الشرق الأوسط بالنصيب الأوفر منها ومن التغطية الإعلامية المواكبة لها. نبدأ بالمجريات على صعيد القضية الأم، حيث شنّت «إسرائيل» في تموز الماضي عدواناً على غزة ساهم في عودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأولويات لدى الشعب والإعلام العربيّين بعد التغييب القسري الذي لاقته نتيجة حوادث ما بات يُعرف بـ»الربيع العربي». وكان الأداء القتالي البطولي أهمّ ما سجلته «ملحمة غزة»، إلى جانب إنجاز استحقاق حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية. وحصيلة ذلك كانت في تنامي التعاطف الشعبي والرسمي دولياً مع الشعب الفلسطيني وقضيته، خصوصاً بعد إقرار «إسرائيل» مشروع قانون «يهودية الدولة» وما استتبعه من اعتراف برلمانات أوروبية عدة، رمزياً ومعنوياً، بـ»دولة فلسطينية» على حدود عام 1967، الأمر الذي عكس بدوره نفوراً دولياً من سلوك «إسرائيل»، وشكل حافزاً للسلطة الفلسطينية للتوجه إلى مجلس الأمن من أجل إعلان الدولة الفلسطينية في وقت بدت فيه أسهم الخيار الفلسطيني المقاوم ورصيده أعلى من أيّ وقت مضى. ولا نغفل هنا الإشارة إلى تطوّر مهمّ تمثل بقرار بشطب حركة «حماس» عن لائحة الإرهاب الأوروبية ما وسّع هامش التساؤلات حول الغاية والتوقيت، في حين لا تبدو الساحة الفلسطينية قد برئت من إرث انقسامها المزمن بعد. أما على صعيد محور المقاومة، فيمضي الأخير، وعلى رغم الحملة الدولية الشعواء عليه، نحو تماسك إقليمي بعد انضمام العراق بحكومته وجيشه وشعبه إلى المعركة ضدّ الإرهاب مع اتجاه تدفع به طهران لتنسيق الجهود السياسية والعسكرية والأمنية على امتداد مساحة المنطقة، لا سيما مع سورية وكذلك العراق ولبنان، مع الإشارة إلى انضمام الأخيرين إلى جهود «التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب» بعد أن أصبحت رقاب جنودهما ومواطنيهما على حدّ سكين «داعش» وأخواته. وقد شكل قيام التحالف المذكور ودخول «البيشمركة» الكردية على خط الأزمة السورية، أحد أبرز المؤشرات على ولوج العنصر الدولي فيها وهو ما كان يُصوّر منذ سنوات كما في مخيّلة بعض العواصم- على أنه «ثورة محلية». أما في سورية، فقد غطت أخبار الاستحقاقات المحلية فيها من انتخابات رئاسية وانتصارات ميدانية يحققها الجيش السوري في معركته على الإرهاب، على ما عداها من استحقاقات دولية كمؤتمر «جنيف-2» وغيره من المشاريع المطروحة لما يُسمّيه كثيرون «حلاً سياسياً» هناك. تركيا بدورها شهدت تطورات خلال 2014. فالسنة التي استهلت على وقع حراك جماهيري وفضائح فساد طاولت أردوغان وحكومته، أنهاها الأخير بتعزيز قبضته على الحياة السياسية التركية، إثر فوزه بانتخابات الرئاسة ما ساهم في إطلاق يده داخلياً وخارجياً. على مستوى الداخل التركي، وبعد ما اعتبره أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم بـ»التفويض الشعبي» والردّ العملي على ضعف المعارضة، يمكن الحديث عن إجراءات مختلفة اتخذها أردوغان على الصعد كافة، خصوصاً على مستوى الأمن والقضاء، الأمر الذي انعكس سلباً على واقع الحريات في بلاده التي تتصدّر وفق التقارير الدولية قائمة الدول التي تقمع الحريات وتعتقل الصحافيين وسجناء الرأي، مع الإشارة إلى أنّ الرئيس التركي واجه في فترة سابقة تهماً تتعلق بالفساد المالي والسياسي. أما خارجياً، فخاض أردوغان ويخوض هجماته الكلامية اللاذعة على الغرب وحكوماته، كما جرى أخيراً عندما دعا الاتحاد الأوروبي إلى الاهتمام بشؤونه، وحين احتجّ على ما أسماه الوقاحة الأميركية غداة زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أنقرة. علماً بأنّ تصريحات الأخير ساهمت في أكثر من مناسبة بتوتر علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها كتركيا والسعودية والإمارات الذين اتهمهم بدعم الإرهاب. هذا «اللسان اللاذع» لأردوغان لم يستثن الحليف الاستراتيجي في تل أبيب، ولم يمنع كذلك من استثمار تركيا في «نفط داعش» والاضطلاع بدور تسويقي له في السوق الدولية «السوداء»، وعلى نحو الخصوص «إسرائيل». وفي حين بدت المؤشرات مشجعة نحو تعاون تركي روسي، بدا مشهد العلاقات التركية الأميركية قاتماً إلى حدّ بعيد بسبب حالة «التمنّع المتبادل» بين الطرفين في موضوع سورية. فما تطالب به تركيا من «مناطق عازلة» هناك مرفوض أميركياً، فيما ترفض أنقرة الانضمام إلى «التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب»، وهو ما تطالبها به واشنطن. يبقى موضوع الإرهاب الحدث أو الظاهرة الإقليمية الأهمّ التي سجلتها السنة الحالية. فمناطق وبلدان عدة في المنطقة كانت على موعد مع دخول عصر الظلمات بعد استشراء الجماعات التكفيرية بين ربوعها وظهور مدى وحشية وخطورة أفكار ومشاريع تلك الجماعات على المجتمعات في المنطقة وخارجها. ويمكن النظر إلى زيارة البابا لتركيا، على أنها تأتي في سياق الشعور بخطر يتهدّد الأقليات الدينية والاتنية في المنطقة، وبخاصة المسيحيين. كان واضحاً أنّ طباخ السمّ ذائقه. فبعد سنوات من دعم واشنطن وحلفائها للإرهاب في سورية، لم تعد أي من المناطق في مأمن. كما أنّ يد الإرهاب المصرّح لها من قبل الغرب بالقتل والتدمير، يبدو أنها قد تخطت حيّزها الجغرافي المسموح به نحو تهديد عواصم غربية كما رأينا أخيراً في أستراليا وكندا ومناطق أخرى. وقد شكل إعلان جماعات تكفيرية إقامة ما تسمّيه «دولة الخلافة» وعقدها العزم على توسيع انتشارها في غير منطقة من العالم، بدءاً من سورية والعراق وصولاً إلى الهند، تحدياً لـ»هيبة واشنطن» وصورتها كـ»شرطي العالم». ولعلّ مشاهد الذبح الوحشي لرهائن أميركيين من قبل عناصر «داعش» على مرأى ومسمع من العالم، فيه ما فيه من «إذلال لأميركا»، وهو التعبير نفسه الذي استخدمه الديبلوماسي الأميركي المخضرم هنري كيسنجر في تناوله لظاهرة التنظيم الإرهابي. العام الذي نحن على وشك وداعه، كان حافلاً، لا سيما في ربعه الأخير الذي شهد تصعيداً في غير منطقة. ففي أوكرانيا التي اشتعلت فيها الأحداث منذ بدايات العام الفائت على خلفية تصاعد موجة الاحتجاجات ضدّ الرئيس يانوكوفيتش في أعقاب رفضه أو تأنّيه توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ومع انقلاب «الشركاء الغربيين» على صيغة الحلّ لتمكين حلفائهم في كييف، كان المشهد ينحو في اتجاه مختلف عنوانه تصاعد الأحداث وتصعيد الإجراءات بين موسكو والغرب. فبعد إقدام الروس على ضمّ شبه جزيرة القرم بناء على استفتاء شعبي أبرزت نتائجه رغبة السكان فيها بالعودة إلى كنف الدولة الروسية التي سلخوا عنها منذ عام 1954، أيقن الأميركيون بأنّ الوقت صار مناسباً للترويج لـ»خطر روسيا»، من أجل توحيد الشعور الأوروبي المصدوم بفضائح التجسّس الأميركي على «الحلفاء» ودفعه للسير خلف الخطوات الأميركية المتجهة لفرض عقوبات سياسية واقتصادية ومالية على موسكو. وفي إطار حملة العقوبات على روسيا وحلفائها، حرّك الأميركي بيادقه في الدول النفطية للدفع في اتجاه «انخفاض دراماتيكي» في أسعار النفط الذي تشكل صادراته إلى جانب الغاز ما تفوق نسبته 70 في المئة من إجمالي الصادرات الروسية. أمام ذلك، دشنت حكومة بوتين مرحلة جديدة تشهد عليها قراراته وخطباته وزياراته الخارجية التي شهدت تعزيزاً للعلاقات مع تركيا وإيران، إضافة إلى إبرام الروس «صفقة غازية» تاريخية مع الصينيين بقيمة 400 مليار دولار ولمدة ثلاثين عاماً كرسالة استراتيجية لمن يعنيه الأمر. حفلت هذه السنة كذلك في أواخرها، بأحداث لافتة كقرار تبرئة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك من التهم الموجهة إليه، وأخرى غامضة كالاتفاق على تمديد المفاوضات النووية مع إيران وما يُقال عن مصالحة خليجية في طور النضوج ُظهّرت بعض آثارها في القاهرة، إضافة إلى الحدث الأميركي ـ الكوبي الذي برز أخيراً. اختتاماً، نأمل أن تصبح الأحداث التي عاصرناها خلال العام الحالي والتي أعطيناها من الاهتمام والتحليل، في جوانبها الأليمة على الأقلّ، مادة لا تبارح الأرشيف. والعام 2014 الذي تسيّد مواعيدنا ملكاً لاثني عشر شهراً، ها هو يفسح المجال لملك قادم. ونحن، إذ نقف على مشارف العام الجديد، لا يسعنا سوى أن نتأبط الأمل والعمل، للجم جراحها حتى «تنذكر وما تنعاد».