أوكرانيا… الأزمة التي أعادت القرم إلى حضن الدب الروسي
طغت الأزمة الأوكرانية بتطوراتها على الساحة الدولية في عام 2014، الذي اعتبر بامتياز عاماً للتحولات والمواجهات الحادة بين القوى الكبرى، أثمر كسراً واضحاً للقطبية العالمية المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية. الأزمة الأوكرانية لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها منفصلة عن الحوادث التي تعصف بالعالم، ولا يمكن النظر إليها على أنها ثورة بريئة بعيدة من مصالح حلف شمال الأطلسي «الناتو» وأميركا. إذ تعود جذور هذه الأزمة السياسية إلى شهر تشرين الثاني الماضي، حين بدأ أنصار المعارضة احتجاجاً واعتصاماً مفتوحاً في ميدان الاستقلال بكييف، رداً على قرار الحكومة بتأجيل التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. واعتبر المحتجون قرار الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش تأجيل توقيع الاتفاقية والتركيز بدلاً منذ ذلك على توسيع العلاقات مع روسيا، خروجاً عن النهج الرامي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. فأوكرانيا بما تمثله من حديقة خلفية لروسيا الاتحادية، تعتبر بالنسبة إلى الغرب من أسهل وسائل الضغط التي يمكن استخدامها بوجه القيصر فلاديمير بوتين، الذي سعى خلال الـ 2014 إلى وضع حد للعنجهية الأميركية من خلال التصدي لها في سورية، ومن خلال استعادة شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول مع انطلاق شرارة الاحتجاجات في كييف. واجتمع الآلاف من سكان مدينة سيفاستوبول في القرم في 23 شباط، في تظاهرة حاشدة قرروا خلالها إقالة عمدة المدينة وتعيين عمدة جديد يحمل الجنسية الروسية. وبذلك بدأ في القرم تنامي الحركة الرافضة لسياسة السلطات الجديدة في كييف. وبعد يومين أعلنت السلطات في كييف بدء السباق الانتخابي استعداداً للانتخابات الرئاسية المبكرة التي حدد 25 أيار موعداً لها، وأعلنت إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس المخلوع يانوكوفيتش، محملة إياه مسؤولية سقوط عشرات القتلى في أعمال العنف بكييف. هذه التطورات دفعت بفيكتور يانوكوفتيش إلى إعلان وجوده في روسيا، حيث وجه رسالة جديدة للشعب الأوكراني، أكد فيها أنه مازال رئيساً شرعياً للبلاد، وطلب من موسكو حمايته من المتطرفين الذين استولوا على السلطة في أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، سيطر أنصار ما أطلق عليه «لجان الدفاع عن الناطقين باللغة الروسية في القرم»، على مقر البرلمان في سيمفيروبول، إلا أنهم لم يمنعوا النواب من عقد الاجتماع، إذ قرر البرلمان تعيين رئيس جديد للحكومة يمثل حزب «الوحدة الروسية» المؤيد لروسيا، وأعلنوا إجراء استفتاء محلي بشأن توسيع صلاحيات الجمهورية ذات الحكم الذاتي. وفي 28 شباط، سيطرت لجان الدفاع في القرم على مطارين في سيفاستوبول وسيمفيروبول، بينما اتهم الرئيس الأوكراني الموقت روسيا بالتدخل عسكريا في بلاده. فيما أكد رئيس وزراء القرم سيرغي أكسيونوف الذي رفضت كييف الاعتراف به، أن الوضع في الجمهورية تحت السيطرة. في الأول من آذار، بدأت احتجاجات حاشدة مؤيدة لروسيا في عدد من مدن جنوب شرقي أوكرانيا، حيث تتكلم غالبية السكان باللغة الروسية. وطرد المحتجون نشطاء ميدان الاستقلال من إداراتهم المحلية وأعلنوا عدم اعترافهم بالسلطات الجديدة. وفي روسيا طلب مجلس الدوما الروسي من الرئيس فلاديمير بوتين الاستجابة لطلب رئيس وزراء القرم الذي دعا روسيا إلى المساهمة في ضمان الأمن والاستقرار في جمهوريته. وبدوره طلب بوتين من مجلس الاتحاد السماح له بنشر قوات روسية في أوكرانيا، وذلك نظراً لوجود خطر يهدد حياة المواطنين الروس والناطقين باللغة الروسية. ووافق المجلس على طلب الرئيس. من جهة أخرى، أعلنت السلطات الأوكرانية التعبئة العامة ودعت الدول الغربية وحلف «الناتو» إلى منع ما وصفته بـ»العدوان الروسي»، في حين واصلت سلطات القرم توسيع قبضتها على جميع جوانب الحياة في شبه الجزيرة، إذ وضع أكسيونوف جميع الأجهزة الأمنية والقوات المنتشرة في الجمهورية تحت تصرفه. أما رئيس البحرية الأوكرانية الذي عينته السلطات الجديدة في كييف قبل يوم فقط، فأعلن انشقاقه وأداء يمين الولاء لشعب القرم، بينما نقلت وسائل الإعلام الروسية أنباء عن انشقاقات جماعية في القوات الأوكرانيية في القرم والانضمام إلى القوات الموالية للقيادة الجديدة. أما الدول الغربية وفي طليعتها واشنطن فدانت ما اعتبرته عدواناً ضد أوكرانيا وطالبت موسكو بإعادة قواتها في القرم إلى قاعدة أسطول البحر الأسود الروسي المرابط هناك، وقررت تعليق التحضيرات لقمة مجموعة «الثمانية الكبار». وأعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن واشنطن تدرس سبل الضغط على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، كذلك أعلن «البنتاغون» تجميد التعاون العسكري مع روسيا رداً على الوضع في القرم، إلا أنه نفى إرسال سفن حربية إلى المنطقة.وأسفر الدعم الروسي لمجموعات الدفاع الشعبي في منطقة دونباس شرق أوكرانيا، عن تغيير التوقعات الغربية بسقوط سريع لأوكرانيا بيد القوميين المتطرفيين المؤيدين للانضمام الى حلف الأطلسي. المواجهة الروسية ـ الأميركية التي ظهرت بشكل واضح في الـ2014 دفعت بالبلدين النوويين إلى اتخاذ قرارات استشعر البعض من خلالها بعودة فترة الحرب الباردة، وأدت التحديات إلى تغيير الجيش الروسي لعقيدته القتالية التي اعتبرت حشد القدرات العسكرية للأطلسي من أهم الأخطار الخارجية. وأضيف أيضاً إلى هذه الأخطار أخذ حلف «الناتو» على عاتقه «وظائف على نطاق عالمي»، تُنفّذ في انتهاك للقانون الدولي، إضافة إلى اقتراب البنى العسكرية التحتية للدول الأعضاء في الحلف من الحدود الروسية بما في ذلك عن طريق توسيع الحلف المستقبلي. وضم نص العقيدة العسكرية الروسية الجديدة إلى الأخطار العسكرية المحتملة على روسيا، إقامة ونشر منظومة الدفاع الصاروخي في أوروبا، والتي تقوض الاستقرار العالمي وتنتهك ميزان القوة الصاروخية والنووية القائم، وتحقيق عقيدة «الضربة العالمية»، والسعي إلى نصب الأسلحة في الفضاء وأيضاً نشر منظومات أسلحة استراتيجية غير نووية فائقة الدقة. ومن بين الأخطار العسكرية التي أكدتها العقيدة العسكرية الروسية مجدداً، نشر وزيادة القوات الأجنبية في الدول والمياه المجاورة، «بما في ذلك بهدف الضغط السياسي والعسكري على روسيا». وعلاوة على ذلك، ضمت قائمة الأخطار استخدام القوة العسكرية في أراضي دول الجوار في انتهاك لقواعد القانون الدولي، وظهور بؤر للنزاعات العسكرية هناك وتصعيدها، وأيضاً إقامة أنظمة في الدول المجاورة تكون سياستها مهددة للمصالح الروسية. وتضمنت النسخة الجديدة للعقيدة الروسية من بين الأخطار الخارجية أيضاً «المطالبة بأراضي من روسيا ومن حلفائها، والتدخل في شؤونهم الداخلية»، كما احتوت الوثيقة على 14 خطراً عسكرياً خارجياً أساسياً على روسيا، بما في ذلك نشاطات أجهزة الاستخبارات والمنظمات الأجنبية المخربة، والتهديدات المتصاعدة للتطرف والإرهاب في ظروف عدم كفاية التعاون الدولي في هذا المجال، وأيضاً انتشار أسلحة الدمار الشامل والصواريخ وتقنياتها. وبحسب الوثيقة، فإن روسيا تتعاون مع دول عدة منفردة وهي بيلاروس وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إضافة إلى التعامل مع دول أعضاء المؤسسات الدولية التالية: وفي مقدمتها منظمة معاهدة الأمن الجماعي ورابطة الدول المستقلة ومنظمة شنغهاي للتعاون وكذلك الأمم المتحدة إضافة إلى الهيئات الدولية والإقليمية الأخرى. ويتمثل التعاون بينها وبين روسيا في إشراك قواتها المسلحة في الإشراف على عمليات حفظ السلام المختلفة وتنسيق الجهود الهادفة إلى إنشاء وتنفيذ مشاريع في مجال تطوير القوات المسلحة الوطنية وضمان الأمن والاستقرار في العالم.