فلسطين والخيار المطلوب
د. سمير صباغ
تواجه الأمة تطورات متلاحقة ترتدي طابعاً خطيرا يهدّد كيانها ومستقبلها ويقضي على طموحاتها المشروعة. وقد واجه أغلب أقطارها ولا يزال فوضى عارمة، نتيجة ما سمي بـ»الربيع العربي» المهلل له أميركياً والذي أشعل حروباً داخلية قُتل خلالها الملايين وسالت شلالات من الدم العربي.
بالأمس، جرت انتخابات رئاسية في تونس فاز فيها مرشح ذو ماضٍ معروف أثناء الحكم الاستبدادي السابق سواء في عهد المخلوع بن علي أو عهد بورقيبة المخلوع قبله. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على نقمة التونسيين على حكم سارقي الحراك الحركات الأصولية الإسلامية ، كذلك الأمر بالنسبة إلى الشعب المصري الذي عاد، بعد أن عانى الكثير من حكم الإخوان، إلى التسليم بحكم العسكر الذي كان ولا يزال يرفضه.
أما في فلسطين، فلم تسفر 20 سنة من المفاوضات مع العدو الصهيوني عن تحقيق أي من الثوابت الوطنية الفلسطينية. فالعدو «الإسرائيلي» الصهيوني لا يفهم إلا لغة القوة، وتكمن تلك القوة التي تستطيع أن تضع حدّاً للعربدة «الإسرائيلية»، في وحدة الشعب الفلسطيني وفي تعبئة الجماهير حول برنامج وطني متكامل. وإذا كان الاعتداءان «الإسرائيليان» على غزة قد فشلا، فبفضل صمود الشعب وقوى المقاومة في غزة، كما أنّ دحر العدو «الإسرائيلي» وإفشال مخططاته في الاستيطان وقضم الأراضي ورفض التسوية سيكون أكيداً وبائناً، إذا كانت القوى الوطنية موحّدة الرؤية والنهج المبني على المواجهه لتأكيد الحقوق، وإذا حظيت فلسطين بتضامن عربي كامل.
في خضم تطورات المنطقة، تبدو فلسطين اليوم أمام خيارات ثلاثة، أولها الخيار الأميركي الداعي إلى استئناف المفاوضات الثنائية، بالآليات نفسها، مع بعض الإغراءات الشكلية لإيقاعها في شرّ تلك المفاوضات مرة أخرى وتحويلها إلى دائرة مفرغة باتت تشكل غطاء سياسياً للجانب «الإسرائيلي» لمواصلة مشاريعه الاستيطانية وتوسيعها وتهويد القدس وعزل الأغوار وخنقها وخلق وقائع ميدانية من شأنها أن تغلق تماماً الطريق أمام إمكانية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، كما تشكل في الوقت نفسه غطاءً للمزيد من الأعمال العدوانية والقمعية، مثل توسيع دائرة الاعتقالات وزجّ آلاف الشباب والمناضلين الفلسطينيين في السجون وجرّ الجانب الفلسطيني إلى بؤرة التعاون الأمني، بما يعمّق تشرذم الموقف الوطني الموحّد، كأساس لإعادة بناء الائتلاف الوطني واستنهاض عناصر القوة الفلسطينية.
إنّ العودة إلى المفاوضات، بالصيغة الأميركية «الإسرائيلية»، هي أقرب إلى الانتحار السياسي، لأنها تعني هدر المزيد من الوقت من عمر القضية الفلسطينية، وتقديم المزيد من التنازلات المجانية، وزرع الإحباط واليأس في صفوف الحالة الجماهيرية وإضعاف حالة النهوض التي تتميّز بها.
ويتمثل الخيار الثاني في إعلان القيادة الرسمية الفلسطينية عن عزمها على التقدّم إلى مجلس الأمن الدولي بمشروع قرار عربي ينصّ على الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران، عاصمتها القدس، وعلى رحيل الاحتلال وقيام هذه الدولة خلال سقف زمني لا يتجاوز الثلاث سنوات أي نهاية العام 2017، بحيث يشكل هذا القرار أساساً لمفاوضات جديدة تُستأنف مع الجانب «الإسرائيلي».
ويُلاحَظ في هذا السياق، التردّد الواضح في تحركات القيادة الرسمية الفلسطينية وتخوّفها من ردود الفعل الأميركية و»الإسرائيلية»، بما في ذلك إمكانية لجوء واشنطن إلى استعمال حقّ «الفيتو» ضدّ مشروع القرار لإجهاضه، والضغط في الوقت نفسه، على الجهات المانحة لمعاقبة الجانب الفلسطيني، عبر تجفيف مصادر تمويل موازنات السلطة الفلسطينية.
إنّ السلطة السياسية الفلسطينية، في ظلّ التردّد الواضح في خطواتها، وفي ظلّ إجراءاتها الهادفة دوماً إلى فرض التهدئة في الشارع الفلسطيني، لا تملك الإرادة الضرورية لطرح بدائل حقيقية لسياساتها التفاوضية السابقة، حيث لا تزال ترفض السير في ما تعتبره مغامرات غير مجدية، وإنّ أقصى ما تطمح إليه هو العودة إلى عملية تفاوضية جديدة، بشروط أفضل نسبياً، لا ترقى إلى المستوى الذي يكفل الوصول إلى تسوية متوازنة ومقبولة للصراع مع العدو، تنهي الاحتلال وتفكك الاستيطان وتكفل للاجئين حقّ العودة.
أما الخيار الثالث، فهو خيارنا وخيار عدد كبير من القوى السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى مجموع القوى الوطنية الفلسطينية والعربية، وهو الخيار الذي لا يكتفي برفض العودة إلى المفاوضات، بالآليات والشروط السابقة تحت الرعاية المنفردة لواشنطن بعد أن ثبت فشلها لأكثر من عشرين عاماً، بل يدعو إلى تبنّي استراتيجية كفاحية سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية، تقوم على الجمع بين العملين السياسي والديبلوماسي والنضال في الميدان ضدّ الاحتلال والاستيطان واستنهاض عناصر القوة في الحالة الشعبية لتتطوّر إلى انتفاضة شاملة، تتبع كلّ الأشكال الكفاحية المتاحة، بما فيها أدوات وتكتيكات الاستراتيجية الدفاعية ضدّ الاحتلال وفكّ الحصار عن قطاع غزة.