«2014 – 2015» الانتقال من الحرب إلى السياسة – 2 –
ناصر قنديل
لو قيّض لأيّ حاكم في واشنطن أن يحلم بشروط إذا توافرت سيخوض حربه المنتصرة، ويعيد صياغة العالم بقوة جيوشه، فلن يحلم بما توافر لجورج بوش الإبن بين عامي 2000 – 2008، فالقوى العظمى المنافسة في حال انكفاء استراتيجي والمسرح الدولي فارغ بانتظار الإرادة الوحيدة التي يسلّم لها الجميع بأحقية التقدم لملئه، أوروبا الموحدة مذعورة من التقدم الأميركي إلى نصفها الشرقي واستتباعه بالمفرّق، بدءاً من حرب يوغوسلافيا، ووصولها إلى حدود روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، وروسيا منهمكة بلملمة بقايا دولة ومجتمع يعيشان مأزقاً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، والصين تنطوي على نفسها وتقرّر الابتعاد عن السياسة لعقود طويلة للتفرّغ للنمو والبناء الإقتصادي وتماشي أميركا في مشيئتها السياسة بالتصرف كحاكم منفرد للعالم، وساحات أفريقيا وآسيا تتنافس على طلب الرضا الأميركي على حكوماتها، والتحكيم الأميركي في خلافاتها، والثورات الملونة تغزو الجوار الروسي لإستيلاد حكومات أشد إلتصاقاً بواشنطن وتماهياً مع رغباتها، والشرق الأوسط ساحة القلق الأميركي تتقاسمه غالبية تابعة لواشنطن معها المال كالسعودية ودول الخليج، والسياسة والسكان والجيوش كمصر وتركيا، و«إسرائيل» القوة القادرة على خوض الحروب بعدما تخففت من عبء وضعها كقوة احتلال للبنان، وعراق محاصر ينزف نحو الموت البطيء.
تقف قبالة أميركا في العالم دول تطلب التعامل معها بصورة لائقة، وتأخذ بالحساب نياتها الطيبة للتعاون، وتبحث عن المشتركات الممكنة لتجسير الهوة وفتح الحوار، على رغم تمسك هذه الدول باستقلاليتها وخصوصياتها، إلا أن سقوف طموحاتها لم تكن أبعد من السعي الى تفادي المواجهة مع واشنطن واستبدال لغة الاشتباك بلغة الحوار، وبمثل ما كان هذا حال روسيا والصين في ظل بحث أوروبي عن الاعتراف بشراكة من نوع معين، كان في الشرق الأوسط إيران وسورية وحدهما، وهما في يقين ان العاصفة الأميركية إذا هبت على المنطقة فستكون هوجاء وتستدعي المرونة واستباقها بالسعي الى بناء الجسور وطمأنة الهواجس، وإيجاد مشتركات تنطلق من إقناع أميركا أنها من القوة والعظمة بمكان ما لا يحيجها إلى التصرف كشرطي أو كمستعمر، بل كزعيم قادر على حل المشاكل والبحث عن حسابات المصالح بعقل بارد وليس بعقل الكاوبوي، وهذا كان مضمون حوار الرئيس بشار الأسد مع وليم بيرينز معاون وزير الخارجية الأميركي في تشرين الثاني من عام 2002 عشية الحرب على العراق، مختتماً حديثه ستأتون وتجربون وتكتشفون حدود القوة في صناعة السياسة، وعندها ستلجأون إلى القوى الحية في المنطقة لكن سيكون كل شيء قد تغير.
بغض النظر عن ظروف وملابسات أحداث الحادي عشر من ايلول 2001، فقد ترتب على هذه الأحداث الدرامية الدامية، شعور عالمي عام بالتعاطف مع اميركا، وجرحها البليغ، وتحسب للابتعاد عن طريقها إذا ما قررت الخروج بجيوشها للانتقام لكرامتها الجريحة، والتعاون معها إذا ما قررت اعتبار الحرب على الإرهاب قضية الإنسانية للقرن الواحد والعشرين، لكن واشنطن تعاملت بصلف وغرور وقررت وضع مشاريع السيطرة الجاهزة قيد التنفيذ، تجاهلت الأمم المتحدة وميثاقها ومبدأ سيادة الدول، ووضعت أعرافها الخاصة بها معياراً للعالم الجديد الذي بدأت التبشير به مع نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما، وقررت غزو أفغانستان والعراق على طريقة حرب يوغوسلافيا لحسم الصراع على آسيا، وتطويق الصين وروسيا وإيران وسورية، وعرض شروط الإستسلام.
دارت رحى الحرب، وظهرت حدود القوة في صناعة السياسة، وبدأ الاعتراف بالفشل يصير علنياً، وبدأت القوى المنكفئة تسترد أنفاسها، وكانت سورية وحدها قد قررت المقاومة، فإيران تعاملت وفقاً لاستراتيجية الاستدراج، وقررت ترك أميركا تغرق في مستنقعات العراق وأفغانستان، مع التشجيع على التورط، وترك حلفائها في البلدين يتعاونون مع الإحتلال الأميركي، بينما كان قرار سورية إعلان دعم المقاومة في العراق، ومواجهة الهجمة الأميركية رسمياً، ورفض الشروط التي حملها كولن باول إلى دمشق، وبدا في عام 2006 أن أميركا غرقت في المستنقع، وأنها تعود للاستدارة نحو أوروبا كشريك ونحو الأمم المتحدة كغطاء، وأن جيوشها تترنح في أرضها عاجزة عن حسم الحرب وعن صناعة النصر وبناء الاستقرار، فشكّل الكونغرس لجنة من نوابه وخبراء ونخب المجتمع الأميركي برئاسة رئيسي الكتل النيابية للحزبين الجمهوري والديمقراطي لرسم استراتيجية خروج من المستنقع على قاعدة التسليم بأن قانون الحرب الجديد في زمن ثورة الاتصالات والمعلوماتية، يتوقف على معادلتين أكبر من طاقة أميركا، هما القدرة على تحويل فائض القوة إلى قيمة مضافة قبل أن يتلاشى فائض القوة ويتآكل، أي صناعة السياسة والحكم لتثبيت موازين القوى التي صنعتها الحرب، والثاني هو القدرة على تحمل بذل الدماء بقياس من يواجهونها وقدرتهم على المثل، إذا استعصى التركيب السياسي السريع وبقيت الحرب سجالاً، في زمن العولمة التي تحولت الجيوش الحديثة معها إلى مرتزقة يتباهون بقيمة الحياة الفردية الاستهلاكية، ويتقنون مهنتهم بعيداً من أي مشاعر أو افكار او إيمان بقضية، ومجتمع يتابع لحظة بلحظة على الهواء ما يجري ويكون ردود أفعال تتخطى ما ترسمه طبقة سياسية أميركية توهمت بعد حرب يوغوسلافيا أنها بقوة التفوق التكنولوجي الحربي قد غيرت قانون كلاوزفيتز للحرب، فلم تعد الحرب ترتبط بأن تطأ أقدام الجنود الأرض، بل صارت الحرب تحسم من فوق، وصار الحديث رسمياً عن حرب بخسائر صفر، وإذ بالنتائج عكس ذلك كلياً والحصيلة النهائية للحرب هي الصفر.
بدأت لجنة الكونغرس مهمتها برئاسة جيمس بيكر ولي هاملتون في كانون الثاني 2006 وبعدما درست وحللت وتعمقت، توصلت إلى أن أي حل سياسي يخرج الجيوش الأميركية من المستنقع سيعني خراباً على حلفاء واشنطن وفقاً لتسلسل يبدأ بـ«إسرائيل»، وينتهي بقطر، وبينهما السعودية وتركيا، ومضمون الحل السياسي، الوحيد هو الإنخراط السياسي مع الأعداء، يعترف لهم بمكانتهم وأحجامهم، فيعترف بإيران دولة نووية وإقليمية عظمى، ويعترف لسورية بدور في أمن العراق ولبنان والأردن، ويذهب نحو روسيا بروح الشراكة والندية، ويتقبل حلاً للقضية الفلسطينية محور صراعات الشرق الأوسط يقوم على إنسحاب «إسرائيلي» من الأراضي المحتلة عام 67 وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين وفقاً للقرار 194، هذا الحل الدرامي ينقذ أميركا لكنه يدمر حلفاءها، إذاً، فلتذهب أميركا لحلفائها وفقاً للتسلسل وتصارحهم، نحن قادرون على فعل ما يخلصنا من المأزق لكنكم ستدفعون الثمن، ونحن مستعدون لتفادي هذا الطريق إذا كانت لديكم البدائل القادرة على تغيير المسار واسترداد زمام المبادرة، وتشارك قادة الجيوش بوضع الروزنامة وعنوانها انسحاب من العراق وأفغانستان مع نهاية عام 2014، ولا عودة لحروب أخرى حتى عام 2022، وأدلى كل من الحلفاء بدلوه، وتولت الاستخبارات والديبلوماسية الأميركيتان، إنضاج نظرية الحرب الذكية او الحرب الناعمة كعنوان للمرحلة الفاصلة بين 2006 و2014، وتحولت توصيات بايكر – هاملتون إلى دفتر شروط للمرشحين الرئاسيين كاستراتيجية للخروج من المستنقع إذا فشلت الحرب الذكية والناعمة في صياغة التغيير المنشود، كان الخيار الأول هو الحرب «الإسرائيلية» لسحق حزب الله في لبنان وإكمال الطوق على سورية، وتشاركت تركيا وألمانيا اساساً في الخطة التي ربطت بمشاريع نفط وغاز، وكان الفشل مرة أخرى، وجربت الخيارات التي تولاها الحلفاء تباعاً، مِن تشارك لدعم تغيير في الحكم في إيران عام 2008 وصولاً الى حرب غزة وإنتهاء بمشروع السلام الفلسطيني «الإسرائيلي» والنتيجة كلها صفر بصفر، حتى جاء الخيار التركي – القطري وما عرف بالمشروع «الإخواني»، أو بالربيع العربي ومنح الوقت والفرصة والإمكانات وكانت النتيجة حلول نهاية 2014 من دون تحقيق الهدف، فسورية الحلقة المركزية لم تكسر، بل إزادات أسباب التعقيد عما كانت عليه أضعافاً.
بين عام 2000 وعام 2014، أميركا لم تعد هي نفسها ولا «إسرائيل» ولا تركيا ولا السعودية، فالتراجع هو السمة المشتركة بين أميركا وكل حلفائها، وفي المقابل روسيا والصين لم تعودا نفسيهما، وإيران وسورية لم تعودا نفسيهما، والمقاومة لم تعد نفسها، فالتقدم هو السمة المشتركة لخصوم واشنطن الذين تطلع إليهم بايكر – هاملتون كحلفاء جدد، وأطل الإرهاب من رحم الحروب الأميركية كعدو قادر وصاعد ولا يمكن مواجهته إلا بحلف عالمي على غير الطريقة الأميركية التقليدية، بل على طريقة بايكر – هاملتون، لقد تغير العالم حتى صار الآن يشبه فعلياً بايكر – هاملتون، وصار القدر هو الإنخراط في التسويات.
عام 2015 هو عام السياسة، بالإنتقال من حرب كبرى تواكبها تسويات صغيرة، إلى تسويات كبرى تواكبها حروب صغيرة، كانت حرب الحسم والكسر والإلغاء، وتسويات التحييد والإغواء والإغراء، وجاء زمن تسويات الشراكة وحروب الأحجام ونسب الأسهم، في الإستراتيجيا والنفط والسوق والسياسة.