عالم ضدّ الإرهاب والعنف والتطرّف
د. عدنان منصور
لعلّ أبرز ما يواجهه عالمنا اليوم، وبالذات، العالم العربي والشرق الأوسط تلك التنظيمات والمجموعات الإرهابية وحركات التطرف والعنف المتنامية المرتكزة إلى فكر متزمِّت تكفيري بعيد كلّ البعد عن أصالة تاريخنا وعاداتنا وثقافتنا وقيمنا الدينية والإنسانية، والتي تشكل تهديداً مباشراً للأمن والسيادة والاستقرار لشعوب المنطقة، نظراً لما تلحقه من تدمير بالمؤسسات والآثار والأماكن التاريخية والدينية والمقامات والمزارات والمتاحف وغيرها من التراث الإنساني العالمي، وكذلك سلوكها الهمجي ومنهجها في القتل والذبح والسحل والتعذيب والتدمير والتهجير والسبي والرق والاغتصاب ومصادرة الممتلكات والعبث بالمقدسات على اختلاف أديانها ومذاهبها ومعتقداتها.
وإذا كان العالم مدعو اليوم لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، فإنه لا بدّ من معرفة أسبابها ومسبباتها ودوافعها وتحديد البيئات الحاضنة والداعمة والمحرضة والمروّجة لها، والتي تدمِّر مجتمعاتنا وتفتت نسيجها الوطني وتضرب بالصميم عيشها المشترك وتفكك وحدتها وسيادتها.
لعلّ عوامل عديدة ساهمت في إفراز قوى التطرف والعنف والإرهاب ناجمة عن تقصير بعض الدول المعنية في تحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة وغياب فرص العمل، واستغلال طبقة قليلة العدد لثروات وخيرات البلاد، وزيادة نسبة الفقر والبطالة، مما ولّد النقمة والاستعداء لدى شريحة واسعة من الشعب دفعها إلى التمرد بدون ضوابط أو حساب، وإلقاء نفسها في أحضان رعاة التطرف والعنف والأفكار الهدامة هرباً من واقعها المرّ. هذا الوضع غالباً ما ولّد حالة يأس في صفوف الذين جنحوا نحو التطرف والعنف جراء الإحباط الذي ترسّخ في نفوسهم مع الأيام، نتيجة سياسات الاستغلال البشعة المسبّبة للحرمان والغبن والفقر المدقع التي كانت حافزاً مشجعاً وسلاحاً قوياً في يد من يريد الانقضاض على الدولة والنظام تحقيقاً لغايات مشبوهة أياً كانت النتائج والعواقب المدمِّرة.
وإلى جانب استغلال هذه الطبقة، فإنّ الفساد السياسي طغى ولسنوات طويلة على مقدرات الأمور وهيمن على السلطة والمؤسسات من خلال زمرة من الحاشية والمحاسيب والأزلام والانتهازيين، مما أسفر عملياً عن شلّ دور المؤسسات وتعطيل الممارسة الديمقراطية وتعزيز الفساد وكبت الحريات، وتضييق الخناق على المعارضة وإجهاض فعاليتها وقدرتها وتأمين وصول الأقرباء والأزلام للسلطة واستغلال النفوذ وزجّ المعارضين الرافضين لهذا الواقع والمنتقدين له في السجون.
ولم يقتصر الأمر على الفساد السياسي فقط، إنما أُتبع هذا بالفساد الاقتصادي والمالي، حيث كان رجال السلطة ضالعين في صفقات لمشاريع كبيرة ومشاركين في حصص مؤسسات مالية وعقارية وبنوك وشركات. ونادراً ما خرج المسؤولون من السلطة نظيفي الكف دون أن توجه لهم أصابع الاتهامات على أنواعها، إضافة إلى ظاهرة تهريب الأموال الوطنية للخارج دون أن تستثمر هذه الأموال في مشاريع التنمية والنهضة عوضاً من أن تغذي مشاريع الدول الأجنبية، أضف إلى ذلك الاختلاسات المكشوفة التي غالباً ما توصف بتعبير مظرف بالهدر، دون محاسبة أو رقابة أو مسؤولية أو محاكمة تضمن الحفاظ على الثروة الوطنية وحقوق المواطنين.
وهناك حقيقة مؤلمة تسود بعض دولنا وتتمثل بتدخل السلطة السياسية في القضاء وأحكامه. تدخلٌ جعل السلطة القضائية تصبح رهينة في يد السلطة السياسية. وكم من المرات عجزت السلطة القضائية عن ملاحقة الفاسدين والمفسدين والأزلام والمحسوبين والمسؤولين وأبناء النظام تحت ضغط السلطة السياسية على تجاوزاتهم واختلاساتهم. وكثيراً ما تلجأ السلطة الحاكمة إلى سنّ القوانين بما يتلاءم مع تطلعاتها وأهدافها تخوّلها الاستمرارية في الحكم وإن جاءت على حساب المواطن ومصلحة البلاد ورغبات الجماهير. وكم تجاوزت السلطة القوانين عندما وضعت الرجل المناسب في المكان غير المناسب، ووضعت المحاسيب والأزلام في أماكن قيادية حساسة لا يستحقونها ملحقين الأذى، مشكّلين عقبة رئيسة أمام تطور البلاد ونموها وتقدمها.
هذه العوامل الداخلية التي تشهدها العديد من دول العالم ومنطقتنا بالذات تدفع بالعناصر المتطرفة المتربصة ببلداننا للقيام بعملها مستفيدة من المناخات الداخلية المساعدة على تحركها وبث أفكارها من خلال حقائق يراد بها باطل، تدغدغ مشاعر الناقمين والمنتقدين والمتضررين وهم كُثر من السياسات الخاطئة للدولة حيال مواطنيها.
وعلى خط آخر غير العوامل الداخلية، هناك عوامل خارجية تصبُّ في مصلحة المجموعات المتطرفة وضرباتها الإرهابية. فالسياسات العدائية التي تمارسها بعض الأطراف والجهات الإقليمية والدولية ضدّ بعض الدول تحقيقاً لمآربها وغاياتها ومصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية والمالية والاستراتيجية، تعمل على تأجيج الصراع في الداخل وإذكاء الفتنة بين أبناء الشعب الواحد وتحريضه ودفعه للتحرك ضمن أهداف مرسومة ومخطط لها مسبقاً واستراتيجية تنفذ على حساب سيادة وأمن ووحدة هذه الدول متسترة بشعارات برّاقة مزيفة وعناوين تحمل في الشكل شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي جوهرها الحقيقي تختزن أفكاراً وآراء وسياسات عنصرية ومذهبية تكفيرية هدامة وأحقاداً ضغينة ورفضاً تجاه الآخر.
هناك جهات إقليمية ودولية وأطراف داخلية دأبت على العزف على الوتر الديني والطائفي والمذهبي، والتحريض من أجل إشعال الفتنة داخل المجتمع الواحد والشعب الواحد من خلال برامجها التعليمية ومناهج التدريس الديني المتطرف الذي يفجّر الأحقاد والكراهية والعنف في النفوس وتجاه الآخرين. والخطورة فيما بعد تتجلى في تربية نشئ وجيل متهور تكفيري للغاية، سيتولى يوماً مقاليد الأمور والمسؤولية في دوائر السلطة والمؤسسات وأجهزة الدولة التي ترعى هكذا برامج دينية.
إنّ التطرف الديني والمفاهيم الضيقة الكارهة والرافضة للآخر جاء نتيجة لعمل المؤسسات الدينية المشبوهة في بعض البلدان في تذكيتها وتشجيعها ورعايتها وتمويلها والترويج لها واحتضانها. هذا التطرف نزع من داخل الإنسان روح التسامح والمحبة تجاه الآخر، ودفع بالجماعات الإرهابية كي تتحول إلى وحوش بشرية تلجأ إلى القتل والذبح والتدمير لكلّ شيء، ما كانت لتلجأ إلى هذه الأساليب التي نشهدها لولا هذا الدعم والرعاية وإثارة النعرات والتأجيج المذهبي الذي توفره لها أكثر من جهة ودولة.
إنّ التدخل المباشر لدول إقليمية ودولية في الشؤون الداخلية لبلداننا ودعم المعارضة المسلحة مادياً وعسكرياً ولوجستياً ومالياً وإعلامياً ووقوفها علانية وبكلّ وقاحة وتحدٍّ إلى جانب المجموعات الإرهابية التي تضرب بلداناً عديدة كالعراق وسورية ولبنان ومصر واليمن وغيرها، يشكل عدواناً مباشراً على سيادة هذه الدول. إذ أنّ تدخلها تحت غطاء دعم الديمقراطية والحرية إنما يشكل عدواناً مباشراً ودعماً كبيراً للإرهاب وللمنضوين تحت لوائه وللجماعات الإرهابية المسلحة مما يؤدي إلى تقويض الدول وتكفيك وحدتها وسيادتها وإدخالها في نفق طويل تدفع فيه الشعوب المزيد من القتل والدمار والعنف والفوضى.
إنّ من استعمر واستغلّ وهيمن على مقدرات دولنا لعقود وقرون يعمل ومن خلال من يدور في فلكه من أتباع وعملاء على الاحتفاظ بنفوذه وهيمنته، حتى إذا ما خرجت هذه الدول عن طاعته وأرادت أن تمسك بقرارها السياسي والاقتصادي والعسكري المستقل، وجدنا على الفور ردّ فعل هذه الدول على الأنظمة الوطنية مستعينة بالأتباع وعملاء الداخل ليكونوا رأس الحربة والأدوات المباشرة لسياسات الهيمنة والحروب التي تشعلها. فتصبح الخزائن لبعض البلدان العربية التي سخّرت نفسها لخدمة دول الهيمنة، عدّاداً في دفع نفقات الحروب وفي تمويل الجماعات الإرهابية التي احتضنتها وموّلتها وسلّحتها ورعتها وروّجت لها.
إننا وإذ نتصدى للإرهاب والعنف، فإننا نحمّل المسؤولية المباشرة للدول التي تسمح للمتطرفين من بعض رجال الدين الذين يطلّون من على شاشات الفضائيات بأفكار ودعوات تؤجج التطرف وتبث التعصب والتكفير والفتنة المذهبية والتحريض الديني. هذا الإعلام المشبوه يلقى رعاية ودعماً من جهات عربية وأجنبية، ويشكل حاضنة للتطرف والعنف والحقد، وداعماً للإرهاب الذي يضرب عشوائياً بلداننا اليوم.
وهنا لا بدّ لنا من إيلاء أهمية كبيرة لقوانينا وبرامجنا الدينية والمدنية ومناهجنا المدرسية التربوية كي نقوم بتعزيز روح المحبة والسلام ونبذ العنف والتطرف والإرهاب، وملاحقة كلّ من يشجع ويحرض ويمارس الإرهاب والعنف ويحضّ عليه ويدعمه تحت أي ذريعة كانت ولأي سبب كان قولاً أو عملاً.
وإذا كنا اليوم نواجه إرهاب المجموعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، فإنه لا بدّ من الإشارة إلى إرهاب الدولة «الإسرائيلية» الذي هو جزء لا يتجزأ من الإرهاب الذي نعاني منه والذي تمارسه المجموعات التكفيرية الإرهابية بل يتجاوزها بما قامت وتقوم به «إسرائيل» منذ عام 1948 وحتى اليوم. وهنا نتساءل: ألا يشكل قصف الأحياء السكنية بالطائرات وهدم عشرات آلاف من البيوت وقتل وجرح آلاف الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، واحتلال «إسرائيل» للأرض وتدمير البنى التحتية وممارستها لسياسة التمييز العنصري ومصادرة الأراضي وحرق المزارع وتدميرها إرهاباً؟!!
ألا يعتبر إرهاباً حصار غزة من البحر والجو والبر ومنع الغذاء والطاقة والدواء والماء عن السكان، وتغيير المعالم التاريخية للقدس وتغيير الديمغرافيا فيها ومنع المصلين من أداء شعائرهم الدينية في المسجد الأقصى وبناء الجدار العازل وإذلال المواطنين على المعابر لساعات وأيام والتنكيل بهم واعتقال وتعذيب وإطلاق الرصاص على من هم دون الخامسة عشر من العمر؟!
ألا يشكّل إرهاباً إبقاء «إسرائيل» الدولة المحتلة الأخيرة في هذا العالم على أكثر من سبعة آلاف معتقل من مقاومين للاحتلال وبرلمانيين وسياسيين فلسطينيين في السجون والمعتقلات، وتهجير عشرات الآلاف من أراضيهم بالقوة ومصادرتها وهدم مساكنهم وجعلها قواعد عسكرية لجيش العدوان «الإسرائيلي»؟!
أليس إرهاباً الخرق اليومي لسيادة لبنان والاعتداءات المستمرة عليه، وزرع العبوات الناسفة والشبكات الإرهابية على أراضيه واختطاف مزارعين من داخل أرضه على يد عناصر جيش الاحتلال، وكذلك دعم «إسرائيل» المباشر للإرهابيين على الحدود السورية ـ الفلسطينية المحتلة واعتداءاتها المتكررة ضدّ سورية ووقوفها بجانب المجموعات والتنظيمات الإرهابية والعمل على تقويض السلطة المركزية والاستقرار في سورية؟!
وإذا كان إرهاب الدولة «الإسرائيلية» لا ينفصل عن الإرهاب الذي تعانيه دولنا اليوم، فإنه لا بدّ من التمييز بين إرهاب الدولة الذي تمارسه «إسرائيل» بحقّ الفلسطينيين المقاومين لاحتلالها وبين المقاومة المشروعة التي كفلتها القوانين والأعراف الدولية في هذا الشأن وتعارف عليه المجتمع الدولي وعدم دمج المقاومة بالإرهاب كما تريد أن تروّج له «إسرائيل» وحلفاؤها الداعمون لها.
إنّ المجتمع الدولي معني مباشرة بما تقوم به قوى التكفير والإرهاب والعنف. إذ لا بدّ لنا من عمل جماعي مشترك يضع حداً للإرهاب بكلّ أشكاله: إرهاب المجموعات الإرهابية والتكفيرية وكذلك إرهاب الدولة. فإذا لم نواجهه اليوم ونجتث أسبابه ودوافعه ومحرِّكه، فإنّ نار الإرهاب لن تقتصر على الدول والمناطق التي تعاني منه في الوقت الحاضر، وإنما سيتمدد لاحقاً ليضرب أينما كان وكيفما كان دون حسيب أو رادع. فالمسؤولية مسؤولية الجميع لتخليص عالمنا من هذا الوباء الخطير الذي يزعزع أركان مجتمعاتنا ودولنا وشعوبنا وحضارتنا وقيمنا. ولنتحرك اليوم قبل الغد من أجل صون عالم آمن قوي محصّن ضدّ الإرهاب والتطرف والعنف.
نصّ الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية اللبناني السابق الدكتور عدنان منصور في المؤتمر الدولي الذي عُقد في طهران يومي 9 و 10 كانون الأول 2014 تحت عنوان: عالم ضدّ الإرهاب والعنف والتطرف.