«دولة» منتهية الصلاحية…
د.عصام نعمان
في سياق حملته على الفساد والقذارة ومخالفات الأمن الغذائي، «أغار» وزير الصحة وائل أبو فاعور على إهراءات القمح في مرفأ بيروت. اكتشف وزميلاه وزيرا الزراعة والاقتصاد أنّ الإهراءات تحوّلت ومحيطها إلى ملاذ آمن للجرذان والقوارض والطيور الحيّة والميتة إلى جانب المياه الآسنة والنفايات. لخّص الوضع المأسوي بقوله: «إنّ اللبناني يتقاسم حبة القمح مع الجرذان».
أبو فاعور كشف أيضاً أنه تبيّن لفرق وزارة الصحة، خلال كشفها على عنابر مرفأ طرابلس، وجود 700 طن من مواد السكر المنتهية الصلاحية جاهزة للتوزيع على أسواق البلد.
غير أن أخطر ما اكتشفه وكشفه أبو فاعور ولو متأخراً، «انهياراً شاملاً للدولة»، فكان أن ناشد الرئيس نبيه بري دعوة مجلس النواب عقد جلسة عامة «لا لتناقش فقط قانون سلامة الغذاء إنما وقف الانهيار الشامل الذي يفسح في المجال لظواهر من نوع الفساد الغذائي».
الحقيقة أنّ «الدولة» في لبنان منتهية الصلاحية منذ زمن طويل. من الطبيعي، والحالة هذه، أن تتزاحم مافيات الغذاء والدواء على استيراد وتسويق وبيع مواد منتهية الصلاحية، ولا تجد من يراقبها ويحاسبها ويُنزل بها أشدّ العقوبات.
يُشكر الوزير أبو فاعور على حملته المتواصلة ضدّ ظواهر الفساد والقذارة ومخالفة القانون في شتى المجالات، لكن هل هو مقتنع فعلاً بأنّ إجراءاتٍ مستعجلَة يطالب بها كإنشاء نيابة عامة لشؤون البيئة وقانون لسلامة الغذاء وإغلاق للمزارع والمطاعم المخالفة تكفي فعلاً لمعالجة الوضع الكارثي القائم في قطاعات الصحة والغذاء والدواء؟ ماذا يُرتجى من مؤسسات «دولة» مهترئة ومنتهية الصلاحية؟ ماذا يُنتظر من «دولة» بلا رئيس لليوم الخامس والعشرين بعد المئتين على التوالي، عاجزة عن سنِّ قانون للانتخابات، ومثابر مجلس نوابها على التمديد لنفسه ولاية بعد أخرى؟
لكن، هل يجوز أن نلوم أو ندين الرؤساء والوزراء والنواب والموظفين فقط على ما نحن فيه من فوضى وفساد وانهيار؟ هل هؤلاء وحدهم مسؤولون عن فساد واهتراء وإفلاس وانهيار «دولتهم»؟ أليس الناس الذين انتخبوهم ومكّنوا للنواب من أن ينتخبوا رؤساءهم، ولهؤلاء أن يعيّنوا الإداريين والموظفين مسؤولين أيضاً عن الكارثة التي يرتع فيها الجميع؟ وهل يُرتجى الإصلاح من شبكة حاكمة ثبُت فساد وضعف وإفلاس العديد من أركانها وقيادييها؟ ثم، هل يُنتظر الإنقاذ والخلاص من طرف الشعب وقد أدمن أبناء طوائفه منذ عهود وعقود وأجيال على الطاعة والاستكانة والرضوخ والإذعان والصمت المدوّي والسجود للرؤساء والحكام، وتمديد ولايتهم إلى أبد الدهر؟
إننا جميعاً في محنة بل في متاهة، لا نعرف كيفية الخروج منهما.
قد يقول قائل: الكلمة الأخيرة في نهاية المطاف للشعب. فالشعب سيقول كلمته عاجلاً أو آجلاً، وهي القول الفصل أيّاً كان مضمونها ومفعولها لأنّ الشعب في الشأن العام هو المرجعية العليا وصاحب الحق في تقرير المصير.
صحيح أنّ شعبنا مستكين ومذعن وراضح لإرادة حاكميه، لكن صلاحيته غير منتهية بدليل أنه ما زال على قيد الحياة. وطالما هو حيّ وله صفة المرجعية العليا، فلا مناص من تثويره وتفعيله وضخ إرادة التغيير في عروقه وقلبه وعقله كيما يتمكّن من ممارسة قدراته، ولا سيما منها حقه ودوره في تقرير المصير. ذلك يستوجب مبادرة القوى الحية في شعبنا وهي قلّة خلاّقة لمباشرة عملية توعية وتثوير لتكوين مناخ شعبي وطني وتعبئة جمهور حاشد ينهض بمطلب الإنقاذ والخلاص ويضغط على الشبكة الحاكمة لتمكين الشعب من أن يقول كلمته في انتخابات عامة تأتي بمجلس نيابي له دور تأسيسي.
الظروف الاستثنائية تستوجب تدابير استثنائية. ذلك يتطلّب، بدايةً، إطلاق مبادرة وطنية شعبية لتكوين مناخ شعبي ضاغط يرفع عالياً مطلبَ قانونٍ ديمقراطي وعادل للانتخابات على أساس التمثيل النسبي في دائرة انتخابية واحدة هي الجمهورية كلها. مثل هذا القانون الاستثنائي لا يمكن أن يُقرّ ويَمرّ إلّا بضغط شعبي استثنائي على مجلس الوزراء، الحالي أو غيره، لإحالته على مجلس النواب بصفة المعجّل وبموجب المادة 58 من الدستور كي تكون الهيئة العامة للمجلس مضطرةً لأن تبت به خلال مهلة أقصاها أربعون يوماً من تاريخ طرحه عليها تحت طائلة إصداره بمرسوم في مجلس الوزراء.
قد يقول قائل: هذا مطلب صعب في ظرف بالغ الصعوبة. نعم، هو كذلك. لكن، هل من سبيل آخر؟ بل هل من خيار آخر غير النضال الشعبي الجاد والجدّي والمتواصل من أجل اجتراح أعجوبة التوافق الوطني العام على ضرورة التغيير في بلد قاسى ويقاسي من الركود السياسي الخانق منذ ولادته القيصرية قبل نحو سبعين عاماً؟
عندما تتوافر الإرادة الصادقة، تتضح طريق الخلاص. فرحلة الألف ميل تبدأ دائماً بخطوةٍ أولى.
وزير سابق