الإرهاب والإرهاب المتمدّن

فهد الباشا

«إنّها بربرية استثنائية»، قالها الرئيس الفرنسي هولاند، واصفاً الجريمة المزدوجة التي ضربت بلاده الأسبوع الفائت. هي بربرية حقاً، لكنّ إضافة استثنائية إليها جعلتها جملة لا تستطيع أن تمرّ بها عادية وتمضي، لأنها، بدلالتها البعيدة تخترق جدار الشكل لتنضمّ إلى شبيهاتها من ناكئات الجراح في نفسك، في إنسانيّتك، فتستيقظ على إيقاعها وأمثالها واحدة من آهات محبوسات في داخلك، منذ ما قبل بداية المأساة في فلسطين، آهةٌ تياهة على مشهد الحشود المليونية التي مشت في باريس حزينة، مستهولة، مستنكرة غاضبة، يقابلها، من عندنا، مع الاستنكار بالتأكيد، لا آهة واحدة بل آهات مليونية لا يقوى على إسكاتها حزن باريسي عظيم…

وأسمعني، وسط هذا الصخب العالمي، أسأل: هل قتلانا غير قتلاهم؟

سبع عشر ضحية، بمن فيهم الأربعة اليهود استجلبوا إلى الردود التي لا تنتهي كلّ هذي الحشود، وعشرات آلاف الضحايا ومئاتها، من فلسطين فالعراق، فلبنان فالشام، مسألة فيها نظر. وأن تترقّى الحال أكثر ففيها إعادة نظر، أو فيها «دعوا الغوييم يقتل بعضهم بعضاً»، على ما أفتى الراجلُ إلى حيث يستحق، بيغن، رئيس وزراء دولة الخطيئة، ذات يومٍ، في ذات مجزرة كانت قائمة برعايته في صبرا وشاتيلا.

مواقف وأمثالها لا تستثير الأحزان فقط، أو تهزّ الكيان، بل هي تستحضر إلى الميدان، غير سؤالٍ، ألف سؤال يمرّ في البال.

في الميدان، تزامنت جريمتان: جريمة «شارلي إيبدو» وما تلاها في باريس، وجريمة جبل محسن في طرابلس الشام ولبنان… «مجاهدان»، هنا، ومجاهدان أو ثلاثة هناك، من دون احتساب الضيفة في اسطنبول حياة بومدين… يُرجّح أنّ ليس بين الجريمتين من علاقة عملانية ميدانية مباشرة… إلاّ لجهة عمى العقل والقلب الضارب بتشويه المفاهيم كلّ مجاهدي الأحقاد والبغضاء وإن جاز المضيّ في البحث عن علاقة أبعد، قلنا هي علاقة تشبه، مجازاً، ما بين الصوت والصدى، إذ طالما أحدث قصفُ الرعود أو أي دوي صوْتي آخر أصداء تترجّع تردّداتها ذبذبات ارتجاجية، تدفع إلى تهاوي كتل ثلجية، تأخذ بدربها كتلاً أخرى لتتدافع جميعاً نحو المنحدرات والمهاوي… أمّا لجهة التماثل بين «أبطال» الجريمتين فالجدير بالملاحظة، هنا، هو أنه قد يكون خلف مفجّري جبل محسن شيخُ طريقة تخرّب بالمال ضميره أو بالمفهوم الغلط عقلُه، فنقل علّته إلى عقليهما ناشئين مندفعين، وساقهما إلى الجريمة مدفوعين إلى الانتقام بغيرة بلهاء تؤجّجها شهوة شوهاء إلى لقاء حور العين… أمّا غازيا باريس، الأخوان كواشي فلا نرى خلفهما ومن معهما إلاّ حضارة متعثّرة، لم تقوَ على صهرهما في علمانية تدّعي أنها تقدّس الحرية، إنها فضيحة لنمط حياة فرنسية، ولا سيما أنهما فرنسيان مولداً وتربية وتعليماً. على أية حال، إنّ ما شهدته باريس، على مدى أسبوعها المنصرم كان حدثين اثنين، لا حدثاً واحداً. جريمة مزدوجة من جهة، وحشدٌ بدا كأنّه مشهد من يوم الحشر.

وعلى هول الجريمة ومهابة المسيرة، يرجّحُ أن لا يتوقف سيل الكلام متحلّلاً، مُنظّراً، أو طارحاً حلولاً، إلى أن يكتب الله، على يد «القاعدة» أو سواها، أمراً كان مفعولاً، يشهدُ الناس، معه، مأساة جديدة، تنقل الأضواء من «شارلي إيبدو» والمتجر اليهودي إلى مكان آخر، لا يعلمه إلا ملك الزمان والمكان، كما يترجح، على المقلب الآخر، عندنا أن تتضاءل حرارة الشجب لجريمة جبل محسن، لتحطّ الأحزان رحالها عند مفرق مقهى أبو عمران… ويمسي الضحايا بسرعة خبراً قديماً من أيام زمان… «قتلاكم غير قتلانا» منهم من قالها يوماً ومنهم من استحيا، لكنهم بوحيها جميعاً يلهجون وينهجون.

على أية حال، الدنيا التي قامت منذ أسبوع، ستقعد، وستنعقد مؤتمرات لتدارس سبل مكافحة الإرهاب العاصف من غير اتجاه مهدّداً سكان القرية الكونية بمشاهد هرمجدونية، طالما تحدث عنها وسعى إليها أنبياء الخراب… ومع بيت القصيد هذا، نشيد الفواجع المتلاحقة، لا بدّ، لبلوغ مرتجى إنساني واحد، من أن تنطلق القوى الدولية التي ترجّح كفّة الميزان من أنّ العالم أصبح كلّه في مركب واحد تهدّد سلامته أمواج عاتيات عاليات، ولا بدّ، لأخذه نحو مراسي الأمان، من أن يرتفع «أقوياء العالم» ولو درجة واحدة فوق مصالحهم كي يتسنى لهم أن يبصروا كيف أنّ الظلم التاريخي الذي ألحقوه بكثير من شعوب العالم، وفي الطليعة فلسطين، هو ظلم مرتعه وخيم وخيم وإن لم يتداركوا أخطاءهم التاريخية، مستفيدين من لحظات تاريخية حاسمة، فلسوف تصح فيهم، بأسرع مما يتصورون آية «بئس مثوى الظالمين». وبالمقابل، لا مفرّ، لتأمين السير بالاتجاه السليم من التصدي الاستثنائي الصادق والجاد لكثير من الأسئلة الضاغطة بثقل تاريخي رهيب، فلا تبقى، من بعد، أمور تعالج بمسكّنات مجاملات استنكارية واسترضائية. فإذا كان صحيحاً- وهو بالتأكيد صحيح- أنّ الإسلام بريء ممّا ينسبه الإرهاب إليه، فهلاّ كلّفت دولٌ ذات مصلحة، دائرة بحثية عالمية علمية مشتركة رصينة البحث عن منبع هذا الإرهاب وعمّن غزا القائمين بغزوة باريس، وقبلها نيويورك بأفكاره السوداء، ومن أيّ تأويل ديني نهلوا، ومن أيّ تمويل… وهل يجرؤ عارف جواباً أن يذهب في الإجابة إلى تعيين المنابع والموارد؟ وهلاّ قام عاقل يُسمَعُ له صوت، يوضح للمسعورين أن ليس من خوف على نبي إلاّ من الخائفين عليه.

وهلاّ علّى عاقل يُسمَعُ له صوت، صوتَه ونبّه أن لا حاجة للناس إلى نبي يحتاج إلى من يدافع عنه… وهل من مجال لأن يتوافق أهل العقل وأهل النقل على أن «كل دين يخشى حرية الفرد هو باطل كذبت فيه الرسل، وخُدع به الناس». وبعد، ماذا يسمّي حكّام الغرب وحكماؤه دعوة نتنياهو الفرنسيين اليهود للعودة إلى فلسطين المحتلة، أرض «ميعادهم» الموهوم؟ وماذا لو حذت حذوه السعودية أو غيرها من الدول ذات الغيرة على الإسلام؟

وماذا لو قرر الفاتيكان أو الأنكليكان النهج نفسه؟ ماذا يبقى، إذ ذاك، لفرنسا، أو من فرنسا؟

وهل من إرهاب أصرح وأفصح وأوضح من الذي خضعت له فرنسا، فكان فاقداً الرضى الفرنسي الرسمي بأن تُنقَل جثامين مواطنين فرنسيين يهود لتُدفَن حيث شاء لها سليلُ الإرهاب أباً عن جدّ، عن جدود… أسئلة وغيرها برسم المؤتمرات المزمع عقدها سراً أو في العلن، والتي لن يكون آخرها الوارد في آخر عجالة.

هل بات يصحّ، مع سوريالية المشاهد الأخيرة في باريس، الكلام على نوعين من الإرهاب: واحدٍ متمدّن وآخر متوحش؟ أهو الإرهابُ ملتحياً أو مُؤسلماً أعلى دناءة من الإرهاب بكرافات؟ أليس أخطرهما هو أكثرهما تمويهاً لحقيقته؟ الأمور المعروفة بخواتمها تجيب قاطعة أنّ أهل الإرهاب كافرين سُمّوا، أم سمّوا أنفسهم مؤمنين هم أهل ملة واحدة، حتى وإن اختلفوا في الملّة والدين.

قصارى ما يقوله المعانون من الإرهاب وداعميه، إلى العاقدين مؤتمرات لمكافحته، لن ينعقد أمل على ما تقرّرون ما لم تتحدّد، موحدةً، مفاهيم الإرهاب، وسواها، وما لم تتوحد المعايير والمكاييل والموازين ليصبح ما هو خير أمام جبال البرينيه هو عينه الخير خلف البيرينيه.

وإذا قلتم فاعدِلوا، وإذا حكمتم فاعدلوا. واعدلوا تأمنوا ونأمن. ومن دون ذلك، كل ما تقرّرون هباء، في صراع الجهالات، وباطل الأباطيل وقبض الريح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى