أأنت شارلي؟
صالح الأشمر
كان قد أصرّ قبل أيام على أن نتواصل هاتفياً حالما يعود من رحلة رأس السنة إلى العاصمة الفرنسية. وكنت في سالف الزمان التقيته هناك وعايشته فترة زميل مهنة لا زميل صداقة.
عاد جنابه من باريس وقلت فلأتصل به لكي أبتّ معه أموراً يتعلق بعضها بكلمة، كنت آمل بأن تكتب في الجريدة المحترمة التي يشغل فيها منصباً عالياً، عن كتاب يحكي أسطورة «أنساب الآلهة» عند الإغريق وكنت قد ترجمته عن الفرنسية طبعاً، لا عن اليونانية القديمة التي لا أقرأها منها حرفاً ولا أفهم كلمة، لا أنا ولا اليونانيون المعاصرون.
وكان أن اتصلت به هاتفياً، فرنّ جهازه مرة واثنتين حتى المرة الخامسة، وهي آخر المرّات التي أسمح لنفسي بإزعاج من أطلبه بها، لعلّه في شُغل شاغل عن هاتفه، أو قد جعله صامتاً. فإذا عاد، أو انتبه، اتصل، وإلاّ فكما يقول عُمر بن أبي ربيعة عن الحسناء التي أهداها السلام:
سلامٌ عليها ما أحبّتْ سلامَنا
فإنْ كرهتْه فالسلامُ على أُخرى
وكان السلام على أخرى كما توقّعت. ومرّ يوم ويومان ولم أتلقَ منه اتصالاً، فقلت: لا بأس يا صالح، إنْسَ الأمر، ولا تكن حنبليّاً، وأعمل بقول الإمام الشافعي:
إذا المرء لا يرعاكَ إلا تكلُّفا
فدعْهُ، ولا تُكثر عليه التأسُّفا
فكيف إذا كان هذا الشخص قد توهّم نفسَه أكبر من أن يردّ على شخصي المتواضع، مع أنه لو قرأ في «أنساب الآلهة» لوجدهم يتنازلون عموماً لمخاطبة البشر الفانين بل يتخذون منهم لأنفسهم عشيقاتٍ وعُشاقاً.
وما كدت أرتاح إلى هذه الخلاصة حتى سمعت رنّة باب الرسائل في هاتفي، ففتحته فإذا فيه: أنا شارلي، بالفرنسية، ثم بالعربية: مشغول جداً بالاعتداء على «شارلي إيبدو»، أسبوع حافل، لا تنسَ شعار «أنا شارلي»!
وانشغلت أنا أيضاً بواقعة صحيفة «شارلي إيبدو» في باريس، وفتحت قنوات التلفزة الفرنسية وتابعت تطوّرات الجريمة بكامل تفاصيلها ومن ذهب ضحيتها حتى مقتل الفاعلين الأخوين كواشي اللذين ارتكبا هذه الجريمة الرهيبة في الظروف التي لا يزال يكتنفها الغموض وتحيط بها الشبهات من حيث التوقيت وسهولة التنفيذ وبساطة الفرار، ومَن هو المستفيد أو المستفيدون منها!
هولُ الواقعة لم يعطب فيّ الذاكرة ولا أعماني كما أعمى هذا الشخص. وعجبت، بعد النظر في أسباب الجريمة وحيثياتها، كيف يدعوني إلى اعتبار «شارلي إيبدو» بمنزلة نفسي، وليس الاكتفاء مثلاً باستنكار هذه الجريمة الشنيعة وإدانة الإرهابيَين اللذين اقترفاها!
عند هذه النقطة وجدتني أطلبه هاتفياً فلم يردّ أيضاً. فكتبت إليه في باب الرسائل على هاتفه معترضاً على انضوائه السريع وركضه لاهثاً للانضمام إلى الفيلق الفرنسي الرافع شعار «أنا شارلي» في حمْأَة الاستنكار للجريمة النكراء من دون أن يتوقّف حضرته عند ما اقترفه رسامو الصحيفة المستهزئون من إساءات واستفزازات متكرّرة ولا مبرّر لها لأهمّ الرموز في الديانتين الإسلامية والمسيحية.
لم تعجبه الرسالة على ما يبدو فلم يردّ عليها، وأظنه صنّفني في خانة المتطرّفين والمتعصّبين والمتخلّفين وأعداء الحضارة وحرية التعبير التي هي عنده قدس الأقداس ولو بلغت من الحِطّة والسفاهة أسفل سافلين.
وها أنا أعاود الكرّة، أي نعم، فأسأله: أفأنت شارلي حقاً؟ «شارلي إيبدو» التي ركبت رأسها منذ سنوات، أعقبت إفلاسها الأول، وراحت تستجلب القراء بالفضائح وبقلة الحشمة ورداءة الذوق في رسوم كاريكاتورية بذيئة تنال من المسيح والديانة المسيحية وفي صور بشعة مقزّزة تُنفّر أكثر المسيحيين تسامحاً ولا يستمرئها أكثر العلمانيين تطرّفاً…
«شارلي إيبدو» التي كلما احتاجت إلى زيادة مبيعاتها وملء خزانتها الفارغة بأموال مشبوهة، وكلما تلقت إيعازاً من جهات لا تريد لفرنسا الأمن والاستقرار، عمدت إلى الإساءة إلى الإسلام والمسلمين.
أفأنت «شارلي إيبدو»، التي لم تتورّط يوماً في شنّ غارة كاريكاتورية شعواء ولا هوناء على اليهودية ولا حتى على أبسط رموزها. لأن حرية التعبير، كما تعلم أنت علم اليقين، تتوقف تماماً وتتكبّل بالقيود، وتُجر بعنقها إلى المحاكم كلّما تعرّضت لما يمسّ اليهود من قريب أو بعيد!
أما كان يكفيك أن تندّد بأقسى العبارات بالجريمة النكراء التي تعرّضت لها أسرة «شارلي إيبدو» مهما كان رأينا فيها. على ما نوّهنا به لتوّنا؟
لِمَ هذا اللهاثُ وراء كلّ ما هو فرنجي برنجي؟ حتى في مثل هذه الحالة التي تستدعي وقفة حازمة وموقفاً جريئاً فيه مصلحة للجميع، لفرنسا العلمانية. بسائر أديانها وعقائدها وطوائفها، ولعلاقتها بسائر هذا العالم الإسلامي الفسيح الشاسع، موقف يُقال فيه للمسؤولين فيها: كفى لعباً بنار إثارة البلابل والفتن الطائفية في بلادنا فإنّ هذه النار لا بدّ من أن تعصف بها الريح فترتدّ عليكم.
وما واقعة «شارلي إيبدو» إلا طلائع شرارتها!
موقف يُقال فيه كفى ديماغوجية في مسألة حرية التعبير!
أفلا تريّثت وقلت لهم بملء الصوت: أمن حرية التعبير أن يشتم المرء أخاه في الإنسانية، وينال من معتقداته، ويهين مقدّساته، كل يوم، في الليل وفي رأدِ الضُحى؟
أإذا كنت آسفاً ومستنكراً ومديناً بكلّ الصدق والعزم الجريمة النكراء التي أودت بأسرة الصحيفة الساخرة، أفأنت مقصّرٌ إلا إذا تماهيت بها وتحمّلت وزر أفعالهما وأنت لا يد لك فيها ولا حتى إصبع؟
لا! كفى لهاثاً أيها البني آدم وراء هذا الغرب الذي فقد كل مرجعية ثقافية وفكرية وكل صدقية سياسية!
كفى لهاثاً وراءه…
أنا أقول هذا… أنا صالح جار وصديق العديد من الأحبّاء الذين قتلهم السفلة المجرمون التكفيريون إخوان الأخوين كواشي، في التفجيرات الإرهابية التي وقعت في الشارع العريض وفي شارع الرويس في حارة حريك.