ليكن الغضب ضدّ الإرهاب… ولكن ضدّ المشغل الأصلي له!
نصار إبراهيم
«هل تعلم كم دولة أفريقية لا تزال تدفع ضرئب استعمارية لفرنسا منذ استقلالها وحتى اليوم»؟
14 دولة إفريقية مجبرة من قبل فرنسا على دفع ضرائب استعمارية، كفوائد على العبودية والاستعمار…
Resource: Mawuna Remarque – Tuesday, January 28th, 2014 -http://www.siliconafrica.com/france-colonial-tax/
لست غاضباً من هولاند كما لست غاضباً ممّن ذهبوا للتضامن مع هولاند… فمن الطبيعي أن يغضب هولاند وأن يحزن ويكتئب، كما من الطبيعي أن يغضب ويحزن معه حلفاؤه ومن هم في موقعه بعد أن تلقى الجميع صفعة عنيفة على وجوههم من القتلة الذين احتضنوهم وسلحوهم وموّلوهم ودعموهم سياسياً وعسكرياً وأمنياً لإسقاط الدولة الوطنية القومية السورية وغيرها من الدول العربية… فأنا لست غاضباً من هؤلاء… فليشربوا البحرا.
ما يغضبني فعلاً هو الشعب الفرنسي والنخب الفرنسية… اللذان سارا خلف هولاند المهان وغطيا على سياساته وجرائمه. ما جرى في فرنسا خلال الأيام القلية الماضية… وصل حدّ اللامعقول… بل وتجاوز ذلك إلى مستوى الإسفاف… الإسفاف السياسي، والإسفاف الأخلاقي، والثقافي والاجتماعي… إسفاف شامل يلف كلّ شيء…
إسفاف اتخذ شكل الاستهانة بالوعي العام والبديهيات… بدا ذلك واضحاً ونحن نتابع تزاحم المهانين والمستلبين وهم يشبكون أيديهم مع منظومة الإرهاب العالمي في شوارع باريس…
لماذا أقول ذلك؟ أقول هذا لأنّ ردود الفعل الاستعراضية التي نُظمت ضدّ العمل الإرهابي الذي نفذ في باريس، كانت من أبشع أنواع التزييف والتضليل والنفاق… كيف؟
لا شك في أنّ ما نُفِّذ في فرنسا هو عمل إرهابي، ولا شك أيضاً بأنّ مختلف أنواع الإرهاب الفردي أو حتى إرهاب المجموعات هو خطير وسيء… وبالتالي لا يجب التقليل من شأنه ومن شأن أسبابه… ومع ذلك يجب ملاحظة أنّ هذا النوع من الإرهاب هو في كثير من الأحيان إرهاب غير واع… أو ردّ فعل يائس وبائس أو ربما مريض أو جاهل… فهو يضرب كنوع من صرخة أو احتجاج… هي صرخة دموية… لكنها صرخة لا تتجاوز هذا المستوى… لا شك في إنه يدمي ويؤلم… لكنه يبقى إرهاباً عاجزاً في بناه وصيروراته…
ولكن الأهمّ هو تجاوز هذا المستوى من النقاش وكشف جوهر ومنبع خطورة هذا النوع من الإرهاب… ذلك لأنّ خطورته لا تتمثل في قواه الذاتية أولاً، بل يكمن في القوى التي توظفه وتستخدمه، أقصد العقل المدبّر والعميق، أيّ الدول الإرهابية»المتطورة». ذلك لأنّ هذا النوع من الإرهاب في ذاته يشبه الإنسان المشوّه والمتخلف والجاهل… ولكنه يتحوّل إلى أداة قتل متحركة عندما تمسك بزمامه منظومة خفية هي التي توجهه وتديره وتسلحه وتحدّد له دوائر فعله…
لهذا أقول بأنّ أخطر أنواع الإرهاب على الإطلاق، أيّ الإرهاب الأخطر والأكثر هولاً ورعباً هو إرهاب الدولة المنظم… الذي تمارسه الدولة بصورة مباشرة ورسمية… وهنا لا أقصد أية دولة بشكل عام… بل إرهاب الدول التي تعرف نفسها كدول متطورة وحضارية، وحرة… لماذا؟
لأنّ تلك الدول تتكئ في ممارسة إرهابها المنظم على ما راكمته وبنته وأسّست له في الوعي الجمعي الداخلي والخارجي، أيّ تسويق نفسها باعتبارها دولاً ديمقراطية تحمي حقوق الإنسان وترفع راية الحرية، ولهذا فهي تصرّ دائماً على وصف نفسها بدول «العالم الحر»… وبالتالي تتصرّف وكأنها فوق النقد وفوق الحساب… ليس هذا فحسب بل وأيضاً تطرح نفسها باعتبارها تملك الحق والسلطة الأخلاقية والمعنوية والقانونية لتعاقب غيرها انطلاقاً من معاييرها ومقاييسها هي… بينما هي في الحقيقة دول نهضت وقامت وتطورت مستندة إلى قرون من التاريخ الاستعماري العنصري المخيف، حيث أبادت ملايين البشر، واستعبدت الملايين ونهبت ثروات أمم وشعوب بكاملها…
لهذا فإنّ الإرهاب المخيف لتلك الدول يتحرك كمنظومات قهر شاملة ضدّ الشعوب والأمم الأخرى، ولكنه يتقدم تحت رايات وشعارات مشغولة جيداً وبصورة مخادعة… بل وحتى ضمن منظومات قهر مضمرة ضدّ شعوبها ذاتها… إنها تمارس الإرهاب باسم الحضارة… وباسم «مسؤولية الرجل الأبيض» أو ما يُعرف «بِحِمْل» الرجل الأبيض، الذي اختارته الأقدار والسماء يا سبحان الله- ليأخذ بيد البشرية ويحميها من ذاتها… ولهذا فإنّ تلك الدول تمارس إرهابها وهي تستبطن هذا الدور، إنها ترتكز عليه، ومن هناك تنطلق لتمارس أعتى أنواع الإرهاب تحت راية الدفاع عن حقوق الإنسان، والحرية، والديمقراطية…
وتصبح هذه العملية المنظمة والممنهجة عميقة ومخيفة أكثر لأنها تؤسّس ثقافة جمعية تحتلّ عقل ووعي وفضاء شعوب تلك الدول… إنها تستولد العنصرية بصورة مباشرة وغير مباشرة… وهي تقوم بذلك في سياق استراتيجية متكاملة ومركبة تضمّ تحالفاً عضوياً بين امبراطوريات الإعلام… التي تمهّد لأيّ غزو أو إرهاب ضدّ الشعوب والدول الأخرى بحملات منظمة ومنسقة إعلامياً، وذلك لكي تهيّئ وتعدّ لاحتلال الوعي العام أو الرأي العام الداخلي، وبعده العالمي ليصبح ما تقوم به من إرهاب وكأنه مطلب شعبي وإنساني…
ولتحيق هذا الهدف، فإن وظيفة المنظومة الإعلامية في تلك الدول تركز على خطورة «الدولة أو الشعب المستهدف» من خلال مخاطبة الوعي الغريزي للشعوب الغربية المأخوذة بذاتها ودورها… والمسكونة برعب الحروب… حيث يتمّ تظهير وتقديم أي تدخل أو حرب ضدّ الشعوب الأخرى وكأنه تصدّ لخطر داهم يحيق بمنجزات الدول والشعوب الغربية وقيمها… هكذا تُساق شعوب الدول «المتطورة» نحو الحروب والدمار في سياق أعتى عمليات التشويه والتزوير والكذب… وذلك بعد سرقة واحتلال وعي تلك الشعوب… ومخاطبة حساسيتها وعواطفها النبيلة في الجوهر ليجعلوا منها قوة داعمة ومؤيدة للحروب والإرهاب… هذا هو الإرهاب الأعتى والأقذر والأبشع…
هذا ما عشناه وشاهدناه وتابعناه بالتفصيل أثناء الحرب على أفغانستان، ثم العراق ثم مع بداية ما يُسمّى «الربيع العربي» في ليبيا ومن ثم سورية… لقد كانت تلك الحروب والتدخلات الكارثية تتمّ في سياق عملية شيطنة منظمة ومركزة وكثيفة للشعوب والدول المستهدفة… وفي ذات الوقت تظهير الدور الإنساني الذي تقوم به الدول الاستعمارية ضدّ الشعوب الأخرى… هنا بالضبط تختفي وتدفن الدوافع الحقيقية للحروب والغزوات الاستعمارية… حيث تختفي في ظلال هذه الحمى «الإنسانوية» المصالح الاقتصادية الاستراتيجية بما في ذلك أرباح المجمعات والشركات الصناعية العسكرية والنفطية العملاقة وغيرها… تلك الشركات المتوحشة التي تحتاج دائماً إلى لحروب لكي تمارس المزيد من النهب ولتراكم المزيد من الأرباح.
هذه المقاربة هي التي تفسر الغضب والشعور بالألم والحزن الذي اجتاحني وأنا أتابع ما جرى في فرنسا… ومن نافل القول هنا التأكيد على أنني ضدّ أيّ عمل يطال الأبرياء… حتى وإنْ اختلف الإنسان معهم… فهذا لا يبرّر أبداً المساس بالناس… بل إنّ قوة أي ثورة أو أيّ شعب يسعى إلى الحرية والاستقلال والتغيير نحو الأفضل تكمن في صلابته الأخلاقية التي يجب أن تحمي قيم وحياة وحرية وكرامة الإنسان.
ما شاهدناه في فرنسا هو عملية نفاق منسقة ومنظمة… حيث تمّ توظيف دماء ضحايا «شارلي إيبدو» لكي يصعد عليها قادة الإرهاب… ولكي يبيّضوا وجوههم… غير أنّ المشكلة هنا هي في انحياز الشارع الفرنسي بما يشبه حركة القطيع وراء من كانوا ولا يزالون السبب الرئيس في تنامي الثقافة والمجموعات الإرهابية في العالم العربي خاصة وفي أوروبا أيضاً…
وفي سياق حالة الهلع والتخدير العام تلك لم يتمكن الشعب الفرنسي وشعوب أوروبا من توجيه الغضب نحو هدفه الصحيح… أي نحو منظومات الإرهاب الأصلية… نحو المشغِّل، وليس حصره بالمنفذين الصغار، فهؤلاء في نهاية المطاف مجرّد وكلاء وأجراء جرى شحنهم وإطلاقهم سواء بالفكرة أو بالاحتضان تحت وهم إمكانية استعمالهم لشنّ الحروب والتدخلات وتنفيذ المهام القذرة ضدّ الأمم والشعوب الأخرى… مع إبقائهم تحت السيطرة.
في هذا السياق كيف لنا أن ننسى سورية التي تقاوم منذ أربع سنوات كلّ هذا الدمار وهذا العبث وهذا الموت والقتل والذبح وتدمير الحضارة وتمزيق المجتمع الأجمل… فقط لأنّ تلك الدول الغربية وحلفاءها من قطعان العرب وضعوا هدفهم تدمير هذه الدولة باسم «حقوق الإنسان والحرية والثورة…» فجمعوا وسلحوا ومولوا وفتحوا الحدود لكلّ إرهابي ومارق وحثالة من جميع أنحاء العالم ودفعوا بهم نحو سورية.
هل يمكن أن ننسى ذلك؟
أليست تلك الدول هي من ربّى هذا الوحش وأطلقه ضدّ شعوب العالم العربي… فلماذا يبكون؟
كيف تقبل باريس والشعب الفرنسي الذي ينتفض ضدّ الإرهاب، كما يقولون، أن يسيرا وراء نتنياهو الذي أباد هو وجيشه آلاف الفلسطينيين في غزة وغيرها… كيف يسمح الشعب الفرنسي لنتنياهو أن يأتي ليتضامن مع ذات القتلة الذين يساعدهم ويعالجهم في مشافي «إسرائيل»؟
تلك هي الجريمة الكبرى بحق الوعي والذاكرة الفرنسية… لقد كشفت جريمة فرنسا كم هو ساذج الوعي العام وكم هو ضحل عندما يسكت ويصمت على رئيس بلاده وحكومته ولا ينتبه لكلّ ما قاما به ولا يزالان من دعم وإسناد لكلّ المنظمات الإرهابية التي تستهدف الشعب السوري والجيش السوري والشعب العراقي… وكيف يتظاهرون ضدّ الإرهاب فيما تبرّر كلّ حكومات «العالم الحر» بما في ذلك فرنسا كلّ ما تقوم به «إسرائيل» من جرائم ضدّ الشعب الفلسطيني تحت الشعار المخزي «حق الدفاع عن النفس»… كيف؟
إذن لقد انحرف الوعي وانحرفت الأخلاق وتمّت السيطرة على الوعي أو جرى احتلاله من قبل ذات منظومة القتل والإرهاب الدولية… ولهذا ستدفع شعوب العالم المزيد من الدماء… ما لم تقف وتتصدّى وبحزم وعلى كلّ المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية لمنظومات إرهاب الدولة المنظم التي يقودها أمثال هولاند وكاميرون ونتنياهو وأوباما وأردوغان وعربان الخليج، أي جميع من مهّد وساعد وسلّح ودرّب ذات الإرهابيين الذين ضربوا في النهاية في قلب باريس وبلا رحمة، ولا زالوا يضربون وبلا رحمة في قلب سورية وفلسطين والعراق وليبيا وفي مصر… وغيرها . هل تتذكرون «بطولات» «الناتو» في ليبيا؟