صراع الحضارات

حميدي العبدالله

أعادت الأحداث الأخيرة إلى الواجهة من جديد المقولة التي أطلقها الكاتب الأميركي «صموئيل هنتيغتون» في كتابه «صراع الحضارات» والذي كرّسه للحديث عن نبوءته حول تصادم الحضارات. في حينه ذهب كثير من المحللين إلى الاستنتاج أنّ هذا الكتاب عبارة عن مواكبة إيديولوجية لاختراع عدو جديد للحفاظ على التعبئة والعسكريتارية القائمة من الغرب منذ الحرب العالمية الثانية على خلفية معاداة الشيوعية، وبعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو ثمة حاجة ماسة إلى اختراع عدو جديد للحفاظ على التعبئة والعسكرة بالمستوى الذي كانت عليه في الحرب البادرة لخدمة مصالح الشركات، ولا سيما شركات التصنيع الحربي.

لكن اليوم في ضوء ما تشهده الدول الأوروبية من تحركات، لا سيما بعد الهجمات الإرهابية في باريس وأكثر من دولة أوروبية، ومظاهرات الاحتجاج على الرسوم المسيئة للرسول في المجلة الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو» بدا وكأنّ نبوءة هنتيغتون حول صراع الحضارات في سبيلها إلى التحقق.

لكن هل في الأفق إمكانية لنشوب صراع الحضارات ولا سيما بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية؟

تاريخ الإنسانية لا يشير بالأساس إلى وجود صراع حضارات، ولا سيما صراعٌ بين الأديان، فالصراعات دائماً كان لها طابع سياسي لا ديني ولا أيديولوجي، سواء كانت هذه الصراعات صراعات ذات طابع أممي أو صراعات داخلية على مستوى كلّ بلد على حدة.

تاريخ أوروبا حيث الغالبية المسيحية يؤكد هذه الحقيقة، ففي القرن العشرين وحده شهدت أوروبا أكبر حربين عالميتين ذهب ضحيتهما أكثر من 45 مليون قتيل، ولم يكن للصراع بين الدول المتقاتلة طابع حضاري أو ديني. وحروب أوروبا الداخلية على امتداد أكثر من خمسة قرون قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت كذلك، أي أنها كانت حروباً سياسية وليست بدوافع إيديولوجية أو دينية، حتى وإنْ حاول البعض إلباسها مثل هذا اللبوس.

كما أنّ الدول، بل الإمبراطوريات الإسلامية، الأموية والعباسية والعثمانية، شهدت صراعات هي أعنف وأشدّ من تلك الحروب التي دارت بين الدول التي تدين بالإسلام، والدول التي تدين بالمسيحية.

وهكذا يتضح أنّ جميع الصراعات الكبرى لم تكن صراعات حضارات لا في الماضي ولا في الحاضر، وبالتالي فإنّ توقعات هنتيغتون هي توقعات تعبر عن التعبئة الإيديولوجية التي تحتاجها الأنظمة القائمة في الغرب لمواصلة حروبها الاستعمارية أكثر مما هي تعبير عن واقع أو احتمال حدوث تصادم للحضارات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى