نزيه خاطر… أستاذٌ في النقد ومؤرّخٌ لمرحلة
جورج كعدي
غاب الناقد نزيه خاطر عن تاريخ مديد من مزاولة النقد التشكيليّ والمسرحيّ بمعرفة عميقة وعين ثاقبة ومنهج تحليليّ فريد الدقّة والتماسك… و«العقص» البنّاء، إذ اشتهر بجرأة موقفه النقديّ حيال أي عمل فنّي يتناوله تشريحاً وتمحيصاً وتفكيكاً، بعناصره ومكوّناته، إن لوحةً معلقةً على الجدار، أو عرضاً مشهديّاً على الخشبة.
نزيه خاطر تاريخٌ في النقد لنحو ستّة عقود، صانعاً مع زملائه شوقي أبي شقرا وعصام محفوظ وسمير نصري مجد «النهار» الثقافيّ، إذ خلقوا هم ثقافتها وجزءاً أساسيّاً من سمعة الصحيفة وانتشارها قبل أفول الوهج والتأثير، وأرّخ للحركتين الفنّيتين، تشكيلاً ومسرحاً، منذ ستّينات القرن الفائت، زمن كانت بيروت المنبر وميدان الاختبار ونقطة الالتقاء والتفاعل بين التيّارات الفنّية والأدبيّة والشعريّة والفكريّة، الوافدة من المحيط القريب أو من أوروبا والغرب عامّة، فتنصهر في المختبر المحلّي لتنتج نشاطاً من معارض وعروض مسرحيّة وحركة نشر مزدهرة للكتب والمجلات الأدبيّة والفكريّة المتخصّصة، مع انتشار ظاهرة «المقهى الثقافيّ» مثل الـ«هورس شو» و«الويمبي» والـ«مودكا»، حيث كانت تدور المناقشات الحامية أحياناً بين الفنّانين التشكيليّين والمسرحيّين والشعراء والصحافيّين والنقّاد وأهل الفكر والإيديولوجيا متعدّدي الهوى والانتماء. كانت بيروت عهدذاك، في عقدي الستّينات والسبعينات بخاصّة، مرجلاً يغلي بالنشاط الفنّي والأدبيّ، وبالحركات الرياديّة التأسيسيّة، للحركة المسرحيّة تحديداً مع منبر أبو دبس وأنطوان ملتقى وروجيه عساف وريمون جبارة وآخرين.
في هذا المناخ الثقافيّ المزدهر، وخلال تلك الحقبة المفعمة بالنشاط الثقافيّ الفنيّ الفكريّ الشعريّ الأدبيّ، ووسط الأسماء البارزة واللامعة والمبدعة، جلس نزيه خاطر راصداً متابعاً ومؤرّخاً، ومن شاء عودة موثّقة إلى تلك الفترة لا بدّ له من الرجوع إلى ما كتبه الناقد الراحل ونشره مقالةً نقديّةً أو حواراً، فلا حدث فنيّاً واحداً، تشكيليّاً أو مسرحيّاً، فات عين نزيه خاطر وقلمه و«عقصاته» المشهورة التي تدلّ على مكامن الضعف مثلما تشيد بنواحي القوّة، إذ كان على قدر عالٍ من الموضوعيّة، المستندة إلى الثقافة والمعرفة الواسعتين المستمدّتين من نظرة فطنة ثاقبة ومن ثقافة باريسيّة حصّلها في عاصمة الأنوار والفنون يوم قصدها للتخصّص في علوم المتاحف.
ثقافة نزيه خاطر كانت فرنكوفونية بامتياز، باريسيّة تحديداً، حتى أنّ الفرنسية طغت على منطقه اللغويّ وتركيب جملته العربيّة التي لولا رعاية شوقي أبي شقرا وكاتب هذه السطور في مرحلة لاحقة بين 1998 و2005 والقلم الأحمر المشذِّب والمعدِّل لما عبرت إلى القارئ بالنصّ العربيّ الفريد النَفَس والعبارة، والخاص بنزيه خاطر الفرنسيّ المنهل والثقافة، إنّما البلديّ التفكير والانتماء، لكونه ابن المؤرخ لحد خاطر، أحد الأعلام في التراث الوطنيّ.
على مستوى العلاقة الشخصية، واستناداً إلى معرفتي الوثيقة بالغائب العزيز، أقرّ بأنّ نزيه خاطر لم يكن شخصاً «سهلاً» بل لطالما صُنّف في خانة المشاكسين، المساجلين بحدّة، وبقدر ما كان له من أصدقاء كان له القدر نفسه من «الخصوم» على خلفيّة العتب أو «الزَعَل»، بسبب مقال نقديّ سلبيّ تناول لوحة أو عرضاً مسرحيّاً أو أداءً تمثيليّاً، أو لاختلاف شديد في الرأي أو عقب مناقشة حامية في المقهى… كان نزيه خاطر، للبعض، رجلاً «صعباً»، وللبعض الآخر الذي يشكّل غالبية قادريه وعارفي موقعه وموقفه، رجل معرفة أصيلة وحسّ نقديّ رفيع، فانطباع الشخصية أمر منفصل عن الحرفة النقديّة المميّزة، حتّى أنّ نزيه خاطر يُعتبر خير نموذج ومثال وقدوة للناقد الفنّي الحقيقيّ، من أولئك الذين يصحّ تلقين منهجهم في الجامعات.
تمنٍّ على شقيق نزيه خاطر، وهو ناشر معروف، أن يحرص على جمع إنتاجه النقديّ المبعثر والمحفوظ في أرشيف «النهار» فحسب، وإصداره في مجلّد كبير، جزءاً واحداً أو عدة أجزاء، لحفظ هذا الإنتاج المبدع الذي يمكن اعتباره علامة مضيئة في تاريخ النقد، وفي إرثنا الثقافي عامّةً، فضلاً عن كونه يؤرخ لمرحلة ثقافيّة كاملة في المسرح والتشكيل ويمكن اعتماده مرجعاً للدارسين والباحثين.
وداعاً نزيه خاطر، أفتقد بغيابك حيويّة الجليس، العارف، الساخر، الذي تُمتع «عقصاته» أكثر ممّا توجع أو تجرح.