دمشق تصنع المجد وتُهديه
علي بن مسعود المعشني
برهنت الأحداث ونتائجها أنّ الرهان على صمود دمشق وثباتها وانتصارها، هو مثل الرهان على جواد عربي أصيل، ومثل الرهان على العربيّ الأصيل الذي يستمدّ صلابته وإثماره من النخلة التي تنحني للعواصف ولا تنكسر، ومن جلد الجمل العربيّ وعزته وكبريائه ومن إبائه ورفضه وضع رأسه على التراب حين يستشعر الموت. الأشهر الثلاثة التي وضعها المتآمرون سقفاً أعلى لفناء سورية نظاماً وسياسات وكياناً دخلت عامها الرابع، وانهارت مفاصل استراتيجيتهم مفصلاً مفصلاً، ومرحلة مرحلة، بدءاً من جمهورية بابا عمرو المرجوّة، لفصل حمص وجعلها بنغازي سورية، وصولاً إلى تحصينات القلمون، مرورًا بما أسموه بـ«زلزال دمشق»، وإغتيال خلية الأزمة، والغوطة الشرقية، والقصير وما أدراك ما القصير. تهاوت عروش واختفت وجوه وتغيرت أدوار ومسميات، وسقطت تحالفات، واختصم أشقاء، وانقلب «أصدقاء سورية» بعضهم على بعضهم الآخر، وسفينة دمشق تتهادى بكل شموخ وكبرياء بقيادة ربانها بشار، غير آبهة بالصغار وأفعالهم، ولا بتلويح الكبار ووعيدهم، يناجيها المجد وتتبعها أمجاد، وإن خاطبها الجاهلون قالت سلامًا.
بكل يقين وثقة نقول اليوم، لو توقع المقامرون بالتآمر على دمشق أن سحرهم سيبطل، وأن كيدهم تدميرهم، وأن دمشق ستتشظى في وجوههم وتنال من عروشهم ومصالحهم، لفكروا ألف مرة ومرة قبل الإقدام على مقامرة كهذه وحصد الخُسران المبين.
لم يبق لهم اليوم من خيار، لا سياسية ولا عسكر ولا تخطيط ولا استراتيجية، سوى الهرب إلى الأمام، والانغماس أكثر في الدم السوري، لتصبح دمشق مقبرة لتاريخهم وأحلامهم ومجاهدييهم ومخططاتهم، ولتجعل من الكبير قزمًا يتلقى صدقات الهزائم المشرفة من أقرانه بين الحين والآخر، والصغار طحالب على مجرى الحوادث تعصف بهم تيارات الماء والهواء.
هرب المتآمرون من عار خُسرانهم إلى مستنقع ومقبرة كبرى اسمها أوكرانيا، كملاذ بائس أخير، لمقايضة دمشق بكييف، فأهدوا الدب الروسي سانحة تاريخية لن تتكرر، فأطلق رصاصة الرحمة على القطبية الواحدة، واعتلى عرش السيادة بعد عقود الانزواء القسري، وأعلن القيصر بوتين، أنه لولا عرين الأسد ما احتمى الدب ولا صال وجال كلاعب أوحد، متسلحًا بأسباب الحيوية والقوة كلّها وملوحًا بها.
دمشق ليست عاصمة، وسورية ليست كياناً جغرافياً، بل قصة مُلهمة للشعوب وعابرة للحدود والأجيال. ثقافة إنسانية لمفهوم العزة والكرامة والكبرياء، وانتصار القيم النبيلة والحق والإرادة، والحضارة على المدنية، والاستراتيجية على التكتيك، والعقل على الجهل، والاعتدال على الغلوّ، والخير على الشرّ، والوطنية على المواطنة، والدين على المذهبية، والأمة على الطائفة بل هي ملحمة إنسانيّة متكاملة الفصول.
لا عجب من صمود دمشق ويقينية إنتصارها، بل العجب من ركوع دمشق وهزيمتها، وأن تقبل الهزيمة وتتقبل الركوع وهي بكامل وعيها وقواها وباختيارها!
دمشق شكلت عالماً جديداً متعدد القطب وسلمته للحليف الروسي الصلب، تقديرًا لبسالته ووفائه، ودمشق أهدت الحليف الإيراني إذعاناً غربياً مُذلاً وغير متوقع أو مسبوق، ودمشق أيقظت مصر هبة النيل والعروبة من سباتها وقدريتها، ودمشق شتّتت مجلس التعاون والجامعة العربية وجعلت منهما مللاً ونحلاً وشيعاً، وكشفت هشاشتهما، وجعلت خيارهما الوحيد إما الإذعان لمصالح الأمة والانصياع للغة العقل والمنطق والواقع، أو التلاشي والزوال الأبدي، ودمشق فضحت ما سُمي بـ«الربيع العربي» وأدواته من خطط وتضليل ورموز وأدوار ومراحل، ودمشق كانت الفيصل بين دين الرحمن ودين الشيطان، ودمشق أوضحت الفرق بين الجهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الأطلسي، ودمشق جلت الغبش عن المسلمين والمتأسلمين، والعرب والمستعربين.
كم أهدت دمشق للعالم والبشرية، هدايا نفيسة وثمينة خلال زمن محنتها القصير جدًا، وكم نبشت خفايا وفضحت سرائر ونوايا، وكم عجلت في منايا، وكم أسقطت من أقنعة وأوراق توت عن وجوه وعورات!؟ أهدتنا دمشق زمناً كاملاً من الدروس والمواعظ والعبر، مختزلاً في ثلاث سنين عجاف فحسب.
صدق المؤرخ وول ديورانت مؤلف موسوعة الحضارة إذ قال :
« لكل إنسان وطنان، وطنه الأصلي وسورية « لهذا شغلت دمشق الورى، وأنارت الدجى، فهي أمّ البشر. ومن عبثوا بسورية فكأنهم عبثوا بالقضاء والقدر.
قبل الختام : امتزج الدم العربي على أرض فلسطين عام 1948، لماذا !؟ لأنها أرض عربية… وامتزج الدم العربي على أرضي سيناء والجولان عامي 1967 و1973، لماذا!؟ لأنهما أرض عربية… وفي عام 2011، يُقال لنا: بشار لم يُطلق رصاصة واحدة في الجولان! لماذا !؟ لأن الجولان يُراد له أن يصبح في وجدان العربي المعاصر أرض سورية، لا أرضاً عربية! كما تحولت قضية فلسطين من صراع عربي ـ صهيوني إلى صراع فلسطيني ـ صهيوني في الخطابين السياسي والإعلامي العربيين اليوم تمهيدًا لوأد القضية، والقبول بأيّ تسوية.
عام 1948، شدّ الرحال من تونس 12 ألف مجاهد تونسي لنصرة فلسطين، أتوا على كل ضامر ومن كل فج عميق، وقضى منهم العديد جوعًا وعطشًا في مجاهل الصحراء تلبية لفريضة الجهاد في سبيل الله، واليوم يشد ضعفهم الرحال من تونس، لكن إلى دمشق تلبية للجهاد في سبيل الأطلسي، فشتان ما بين الجيلين والتربيتين والتعليمين والجهادين. فكم أنت عظيمة يا دمشق وعصية في ضعفك وقوتك، جليّة في رسالتك.