محاولة اختراق للوعي والوجدان وتحويلهما حطاماً يتلقّى كلّ ما يأتيهما
أحمد أشقر
يُعتبر اختراق الوعي عملاً عدوانياً بامتياز، إذ يهدف إلى تدمير الوعي والوجدان بالكامل وتحويلهما إلى حطام، كي يستقبلا كل ما يأتيهما، بما فيه ذلك الذي يمارس عملية التدمير. أي قبول رواية القوي بالكامل، من دون أن تكون لديه ــ أي لدى وعي المُدمَّر ووجدانه- القدرة حتى على التساؤل البسيط.
تعتمد تقنيات اختراق الوعي وتدميره على إخفاء المعلومات المحيطة بالحوادث و/أو تزويرها و/أو تشويهها. وكذلك إخفاء النتائج المترتبة عليها، فـ»غالبية القصص في هذا الكتاب تتوقف عند الرحيل، من دون أن تكمل لتروي ما حلّ بهؤلاء منذ لحظة رحيلهم»، على ما تقول الكاتبة ص 14 – 15 . أي أن الكاتبة تتعمّد سلفاً وضعنا في هذه الحلقة المليئة بالثغر والنواقص والمواقف السياسية المكثفة. بكلمات أخرى تقول الكاتبة: «إن أوضاع يهود لبنان واليهود العرب عامة قبل النكبة ودورهم في المشروع الصهيوني يجب أن لا يهم أحداً بالمرّة. فهم أناس مساكين اضطروا إلى الرحيل عن بلادهم بفعل أمور لا نعرفها بدقة!». وبما أن الكتاب يتطرق إلى اليهود الذين احتلوا بلادنا وتسببوا بنكبتنا واحتجزوا تطورننا ويطاردوننا في كل مكان على وجه الأرض، لذا لا بدّ من العودة إلى التاريخ عبر الوثائق والدراسات لسبر غور «رحيل» يهود لبنان والنظر في قضية استجلاب يهود العالمين العربي والإسلامي كافة إلى فلسطين وفهم مساهمتهم في المشروع الصهيوني.
يعتقد عبد الوهاب المسيري 1938 – 2008 أن اليهود كانوا ضمن المجموعات الوظيفية التي أنتجها الاستعمار في الدولة العثمانية وتحديداً أثناء فترات ضعفها. وبالتالي أصبحت هذه المجموعات خنجراً في خاصرة الدولة العثمانية والمجتمعات المحلية، لأن ولاءها أصبح لغير النظام الوطني وأبناء الوطن.
وبما أننا نتحدث عن اليهود، فقد أوكلت مهمة إنتاج اليهود كمجموعة وظيفية إلى أطر كثيرة وأهمها شبكة «مدارس الإليانس» و«نوادي مكابي»، إنّما رغم أهميتهما في المشروع الصهيوني وترحيل يهود لبنان، إلاّ أن الكاتبة تحجم عن تعريفها. لذا سنقوم باستنطاق المسيري لتعريفهما. يقول المسيري عن «الإليانس»: إنّها شبكة مدارس غربية في العالمين العربي والإسلامي كانت تدرّس طلاّبها وفقاً للمناهج الفرنسية وباللغة الفرنسية ولغات أوروبية أخرى من دون أن يهتموا بتدريس اللغة العربية «ما أدى إلى صبغ معظم أعضاء الجماعة اليهودية بصبغة غربية فرنسية فاقعة، وإلى عزلهم عن بني أوطانهم وتهميشهم من النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد اكتسبت شريحة كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية الثقافة الغربية في مدارس الأليانس، واعتمدت عليهم سلطات الاحتلال البريطانية للخدمة في إدارتها الجديدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى».
أما عن «نوادي مكابي» فيقول: «في العشرينات قامت الوكالة اليهودية بتكوين شبكة جاسوسية في العالم العربي، حيث لجأت إلى استخدام المؤسسات والمنظمات اليهودية الشرعية مثل نوادي المكابي كواجهات تخفي عبرها نشاطها المعادي وغير الشرعي». إذن، هاتان هما «الإليانس والمكابي».
أما جمعية «قطرة الحليب»، فتزعم الكاتبة أنها تأسست بمبادرة من «نساء الطائفة من العائلات الغنية بغرض تأمين مواد غذائية للعائلات المحتاجة» ص 12 – 13 ، لكنها منظمة صحية صهيونية أسسها الصهاينة في بداية العشرينات من القرن الماضي ولا تزال تعمل إلى الآن في مجال رعاية الأم والطفل.
عن استجلاب اليهود العرب بالقوة من أوطانهم يشهد شلومو هليل في كتابه «رياح شرقية» بمهمة السرية إلى البلاد العربية 1985 ، حين قام بتفجير دور العبادة والمراكز اليهودية الأخرى وإلصاق التهمة بالعرب في ما بعد. وكذلك «فضيحة لافون» 1954 – 1955 في مصر الشبيهة بما فعله هيليل. ولا تزال بعض الصفحات من سجّل الاستجلاب مطوية. يبقى السؤال المطروح هنا: لماذا لم تأتِ الكاتبة بمثل هذه المقدمة؟ فلو أوردت مقدمة تشرح فيها تلك الحوادث، لاستقبل القراء كتابها بفهم ووعي وإدراك مختلف.
يحتوي الكتاب على 23 قصة أختار منها خمساً للإشارة إلى ما أقول:
القصة الأولى عن سليم مزراحي وماري السمن: تتحدث هذه القصة عن الشاب اليهودي العراقي الشيوعي سليم مزراحي الذي « … هرب من الاضطهاد الذي لحق باليهود بعد النكبة». «هرب» سليم إلى لبنان وهناك تعرف على فتاة لبنانية مسيحية وتزوجها. ضاقت بهما السبل بعد عدوان عام 1967 لذا نصحه حاخام الطائفة بالهجرة إلى «إسرائيل». أما ماري فقد قلقت على مصير زواج بناتها، لذا وافقت هي الأخرى على الهجرة إلى فلسطين «إسرائيل» عام 1967 ص 17 – 54 .
وبما أننا نتحدث عن هجرة مستعمرين إلى وطننا، فلا بدّ لنا من أن نطرح بعض الأسئلة المهمة: كيف يمكن لشيوعي أن يتحوّل فجأة إلى أداة في مشروع استعماري كولونيالي؟ ألم يكن في إمكانهما الهجرة إلى بلاد الله الواسعة مثل آخرين!؟ أنَّى لنا أن نصدق أن ماري المسيحية التي تزوجت يهودياً قلقت على زواج بناتها بحجة أن غير اليهود لن يتزوجوا منهن!؟ وما هي الظروف التي أحاطت بهجرتهما؟ وما كان دورهما في المشروع الصهيوني في فلسطين؟
القصة الثانية تتضمن ثلاث روايات عن «جواسيس». تنقل الكاتبة رواية اللبنانية سلمى التي تقص قصصاً حول ثلاثة جواسيس يهود هم نهى ب وخواجة روبين وشيلا ص 82 – 109 . لا تريد لنا الكاتبة أن نقبل بصدق روايات سلمى التي تجعل منها امرأة ثرثارة وغير أمينة في قصصها. بالطبع، قد تكون السيدة سلمى ثرثارة وقد تكون «بهّرت» القصص قليلاً، لكن جعلها غير أمينة على الإطلاق أمرٌ مثير للريبة، إذ بتنا نعلم أن الصهيونية جندت مئات الآلاف في مشروعها الاستعماري ومنهم من تورط في الجاسوسية، لذا ما الضير لو تفكرّ ملياً في صدق قصص سلمى!؟
القصة الثالثة عن أبو عمر سلمون من «قبضايات» بيروت وتتحدث عن يهوديين، يعقوب وهو شاب هامشي يعمل على احتكار تذاكر السينما ثم يبيعها بسعر أعلى، وسلمون اليهودي المثقف الذي كان يعمل محرّراً في الإذاعة اللبنانية، وذات يوم قرر الخواجا سلمون أن يهاجر إلى فلسطين من دون أن يخبر أصدقاءه! ص 124 – 132 . والسؤال: إذا كان الأمر مثلما ظهر في الرواية وكان سلمون موظفاً في الدولة لم يضطهده أحد، فما الذي دفعه إلى الهجرة بسرّية تامة؟ هل كان عميلاً للاستخبارات استزرعته في الإذاعة الوطنية لإمرار مخططاتها ثم رحّلته إلى فلسطين بعد انتهائه دوره المحدد؟
في سياق هذه القصة نضيف ما ذكره الدكتور محمود محارب من جامعة القدس العربية حول كيف دست الصهيونية مئات المقالات التي تحابي مشروعها في الصحافة اللبنانية والسورية. ألا محتملاً أن يكون سلمون واحداً من الذين يعملون على دسّ هذه المقالات!؟ وماذا فعل سلمون هذا في فلسطين؟ هل عمل مترجماً لدى الاستخبارات؟ هل هو الذي كان يشطب بعض العبارات من الرسائل التي كان يتبادلها العرب؟ هل كان يمزق بعضها؟ نقول هذا لأن نسبة لا بأس بها من اليهود العرب كانوا الأداة التنفيذية في أيدي السلطة واستخباراتها للتجسس علينا وقمعنا.
في هذا السياق نضيف أيضاً أن الاستخبارات الصهيونية دست عملاءها بيننا، حتى أنها زرعت بعضهم أئمةً في المساجد! بلى، يتضح الآن أنها زرعت عشرات اليهود العرب أئمة في مساجد القرى العربية في فلسطين، وهؤلاء لم يُكشف أمرهم إلاّ بعد وفاتهم ودفنهم في مقابر اليهود!
القصة الرابعة عن مروان وأليغرا: بعد خلاف شديد مع الأهل تزوج مروان الشاب المسلم مع إليغرا الفتاة اليهودية. ولشدّة ضغوط أشقّائها الذين هاجروا إلى البرازيل استجابت لطلبهم وبدأت تزورهم شهراً كل سنة. وفي إحدى زياراتها لهم قررت أليغرا الهجرة والبقاء هناك! إلا أنها استمرت في الاتصال هاتفياً بمروان وظلت ترفض إعطاءه رقم هاتفها كي لا يفتضح أمر زواجها من مسلم ص 187 – 196 . في هذا السياق يبقى السؤال: بما أن أليغرا لم يضطهدها أحد، وزوجها مروان يعشقها إلى درجة الجنون، لِمَ قررت الهجرة من دون علمه؟ هل كانت بمهمة ما أتمتها وسافرت!؟ وماذا فعلت في البرازيل؟
القصة الخامسة عن وحيدة وادي أبو جميل وتتحدث هذه القصة عن ليزا اليهودية الوحيدة التي بقيت في الحيّ ص 259 – 274 . قصتها تثير التقدير والتعاطف معاً، التقدير كونها بقيت رغم جميع الضغوط التي تعرضت لها، والتعاطف لأنها امرأة عجوز ليس ثمة من يرعاها لا مؤسسات دولة ولا أقارب. والكاتبة التي لا تستهويها الطبقة التي تنتمي إليها ليزا، عمدت إلى وصفها بصورة منفرة وكاريكاتورية قد تثير السخرية لدى غير الحسّاسين إزاء مصائر الناس، والغضب لدى الحساسين منهم. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ما الذي يستدعي هذه السخرية من امرأة يهودية عجوز اختارت البقاء للعيش معنا رغم كل ضغوط الهجرة. هل كانت الكاتبة تفضل لو أن ليزا اختارت مثل آخرين الذهاب مستعمرة إلى فلسطين كجزء من المشروع الصهيوني؟
هذا الكتاب مثير إلى أبعد حدّ حين يُقرأ في السياق التاريخي للصراع العربي- اليهودي.