إصلاح إبريق الزيت
فهد الباشا
بعدما تكشّف، بالنتائج والوقائع أنّ الفساد صنوُ الإرهاب، ونسيبه قحّاً ولحّاً، علَّق الذين لم يقطعوا الأمل بالوزراء الإصلاحيين، سائلين: لو حسبنا أنّ للفساد قدرة «داعش» و«النصرة»، أما آن أن يُقضى، بالقضاء طبعاً، على فاسد «داعشي» واحد؟ أو أن يُدخَل السجن مستحقّ نصراوي؟ ومن فسحة الآملين خيراً نرفع الصوت مجاهرين بأننا كنّا هلّلنا لأبو فاعور، مذ هلّ هلاله، وضوّى على مغاور الفساد وأفاعيه ومراعيه، من دون أن نفكّر بالتطبيل والتزمير، حتى لو صار هلاله بدراً بإنجازات تامة، ناجزة كاستقلال لبنان… أبو فاعور يعمل ما يقدر عليه، وأهمّه أنه نقل عدواه إلى سواه، فأعاد وصحبه للدولة بعض اعتبارها في المطاعم والمسالخ ومتاجر الغذاء والدواء… مع تشكّيه، سابقاً، من تباطؤ في مواكبة القضاء، لما يقتضيه كشفه بعض «مآثر» علي بابا وأربعينه، الذين تناسلوا مئاتٍ وآلافاً، ليستدرك مؤخّراً، مُشيراً، لا مُشيداً، إلى القضاء الذي بان «أكثر تشدّداً» حسب تعبير الوزير، الذي نقل الشكوى هذه المرة إلى الإعلام الذي خفّت همّته وخفتت أضواؤه على مكتشفات أبو فاعور، ولا سيما مع إغاراته الأخيرة على المتجاوزين حدود المواصفات المطابقة.
على أية حال، ها نحن من جديد، نعود إلى الموضوع الذي لا يعتق، إذْ، كلما تقدّم بالفساد الزمان، حرص أهلوه على تجديد شبابه بحيوية زائدة، وبفاعلية أفضل، تلبية لحاجة السوق، في العرض والطلب… إنه الفساد، حكاية إبريق الزيت الذي ما انفكّ، في هذا النظام المعفون، المأفون، ينزّ بقعاً، تتمدّد في كلّ الاتجاهات، ومن فوق إلى تحت، شاملة غير مرفق وغير مرفأ ومطار، وغير مسلخ وغير مستشفى يسلخ… جبّارٌ، والله، هو الذي تُروى عنه الطرائف، عابراً الأحزاب والطوائف، حارقاً جيوب الناس وأعصاب الناس، وهو في كل ذلك، ليس ابن يومه، أو ابن عهدٍ أو عقد، بل هو سابق في الزمان نشوء الكيان، ومتأصّل، آفةً وثقافة، منذ حُكْمِ بني عثمان… وصار، في غياب القضاء المعافى، نهجاً في الحياة العامة والخاصة، وتابَع، مع الاستقلال وبعده، تطوير أساليبه والألاعيب، حتى ألِفَتْه نفوسٌ عالية المقام، «سامية الاحترام»، وشكّلت منه شركات سياسية يستثمرُ الكبار فيها، بالتكافل والتضامن، صغار الكسَبَةِ النهبَة، والكتَبَة الكذَبَة، ولو تسنّى لراغب على سبيل التفكهة أو البحث الجادّ، أن يجمع في كتاب، ما قيل حتى الآن عن الفساد في لبنان، لجاءت حصيلةُ الجهد، لا كتاباً واحداً، يزخر بما يثير، بل أسفاراً فيها الكثير مما يشبه أساطير الأوّلين، ولو شاء ذِكراً مفيداً للوزير الناشط أبو فاعور لأفاد، من دون ريب، أنه لم يفشل في حملاته المتلاحقة بسرعات متفاوتة… إلا أنه لم ينجح النجاح الذي يُسجَّل له فتحاً مبيناً في سجل الفاتحين، ذلك ليس لأنّ الرجل مجاهد غير جادّ في جهاده، بل لأنّ عتاده لا يتيح له التقدم في الميدان مسافة أبعد… فالنصر الكبير يستلزم توازناً بين قوتين، وهو ما لا يبدو متوافراً بالتمام والكمال، لا لأبو فاعور ولا لسواه من وزراء يسندون ظهورهم إلى زعامات طالما تربّت جماهيرها على أنه يجوز، في السياسة، أن يكون اللبن أسودَ… ومع جماهير اللبن الأسود يتدنى سقف الطموح، ليصحّ القول إنّ الفساد في الحكم هو من فساد في الشعب.
الفساد والإرهاب عدوّان صنوان، لا يرتدعان بفضحهما مشاهدَ على الشاشات. ردعُهما، كردع الأفاعي، بضرب رؤوسها وإغلاق جحورها، أو فهي تعاود تناسلها حيّاتٍ حيّات، قد تلين ملامسها حيناً، لكن أنيابها حمّالة، أبداً سمّاً وعطباً.
وعلى الإصلاحيين من وزراء وغيرهم، أن يأخذوا العبرة من أنّ بعض التقدّم في إغلاق بعض الأوكار لم يمنع الفساد والفاسدين من مواصلة التحدّي والتصدّي، ليقين عند «كبارهم» وحُماتهم، في الفساد السياسي، أن هذه الغارات التي يشنّها التحالف الوزاري غير جادّة ولا مجدية لأنها غير مقرونة بالفعل القضائي الحاسم، والذي من دون إسناده الفعّال ستكون شبيهة بإغارات التحالف الدولي على إرهاب «داعش» و«النصرة»، قد تصيب مقتلاً في مكان لتُحيي رميماً في موقع آخر…
ومن قبل، ومن بعد، إنْ شئتموه، صدقاً وحقاً، قضاء على الفساد، فهاتوا لنا قضاءً رهبتُه وهيبتُه تسبقان أحكامَه، لتقتنع الثعالب والذئاب، كبيرها والصغير، أنه لها بالمرصاد اليوم وغداً وبعد غدٍ، وإلى دهر الداهرين.
من دون ذلك، مساعيكم أشبه بالإصلاح العذري، الذي ينتج قصائد غزَل ومديح وحكايا، لكنه لا ينجب إلا المزيد من أولاد الزنى وأبناء الحرام.