هكذا ادّعوا اغتيال الشهيد عماد مغنية… والمحلّلون لا بدّ أن يعودوا إلى خطاب السيّد الأخير

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

حدث أن شنّت «إسرائيل» غارةً على الجولان السوري المحتلّ، وقصفت سيارتين كان يستقلّهما مقاومون لبنانيون ومعهم عميدٌ إيراني. «إسرائيل» اغتالت المقاومين جميعاً، ليتضح بعد فترة وجيزة، أنّ من بين المستشهدين، المقاوم جهاد مغنية، نجل الشهيد عماد مغنية.

التهب شارع المقاومة، والتهبت مواقع التواصل الاجتماعي ومعها وسائل الإعلام المؤمنة بالمقاومة مساراً ونهجاً. وبدأ الحديث عن الردّ الموجع، وبدأت الأسئلة تُطرَح: متى؟ أين؟ كيف؟

وما هي إلّا أيام قليلة، حتّى نفّذت المقاومة عملية نوعيةً في مزارع شبعا المحتلة، مستهدفةً رتلاً من آليات العدو، وأوقعت عدداً من القتلى اعترفت «إسرائيل» بإثنين منهم. ومرّةً جديدة، التهب الشارع، والإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي.

بعد يومين من العملية النوعية، التي أرعبت الصهاينة وجعلت قياداتهم تلتزم الصمت، والمستوطنين يلتزمون الملاجئ، أطلّ سيّد المقاومة، السيد حسن نصر الله بخطابٍ نوعيّ لم يُبق حرفًا من دون نقاط، وأعلن فيه الحِلّ مما يسمّى قواعد الاشتباك. قيل ما قيل في الخطاب، وكُتب ما كُتِب. لتنبري الصحافة الأميركية عبر «واشنطن بوست» و«نيوزويك»، لنشر تقريرٍ عن تورّط «CIA» في اغتيال القائد عماد مغنية في دمشق عام 2008.

وأيضاً، قيل ما قيل في هذا التقرير وكُتِب ما كُتِب، واحتلّ المحلّلون السياسيون شاشات التلفزة وصفحات الجرائد، للبحث في أسباب نشر تقريرٍ كهذا في توقيت كهذا. منهم مَن ذهب إلى القول أن نشر التقرير ليس إلا رسالة لـ«إسرائيل» مفادها أنّ الأخيرة ما زالت بحاجة إلى المعونة الأميركية، على رغم العلاقات المتوترة بين الإدارة الأميركية وبنيامين نتنياهو، ومنهم من ذهب إلى اعتبار نشر هذا التقرير، بمثابة تحذير لحزب الله والمقاومة، مفاده: «انتقمتم الآن من الإسرائيليين، ماذا ستفعلون بعدما علمتم أنّ أميركا ضالعة في قتل قياداتكم؟ هل ستأتون بحركة في ظلّ المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية حول ملف طهران النووي؟».

لتحلّل «إسرائيل» كيفما يحلو لها، فهذا شأنها. أمّا بعض العرب المتشدّقين الذين يُبهرون حين يتحدّثون عن المقاومة وكأنّهم خبراء استراتيجيين، فإننا نحيلهم إلى كلمة سيّد المقاومة الأخيرة، التي قال فيها ما معناه: «يأتي أحدهم ويربط بين عمليات المقاومة والمباحثات حول ملف إيران النووي، وأنّ المقاومة لن تردّ بسبب تلك المفاوضات ولن تسبب حرجاً لإيران. إن المفاوضات بين إيران وغيرها من الدول حول الملف النووي، أمر مفصول تماماً عن المقاومة وعملياتها… إنّ الإيرانيين وكل من يدعم المقاومة ويحبّها، لا يريدون لنا المذلّة».

يبقى أن نعرض في هذا التقرير، ترجمةُ لبعضٍ مما ورد في تقرير «واشنطن بوست» لتبيان كيف ادّعت «CIA» ضلوعها في اغتيال القائد مغنية. وأردفناه بتقريرين صحافيين عبريين، الأوّل يحاول التماهي مع تقرير «واشنطن بوست»، ومحاولة القول لأميركا: «ونحن أيضاً كنّا موجودين»، والثاني يتساءل عن أسباب نشر هذا التقرير، وفيه «زكزكة» لنتنياهو.

صدق تقرير «واشنطن بوست» أو لم يصدق، ووُفّق المحلّلون أم لم يُوفّقوا، يبقى أن نقول إننا أمّة لا تخجل بشهدائها، وإن شهداءنا هم طليعة انتصاراتنا الكبرى… والنصر آتٍ لا محالة.

كيف تعاونت وكالة الاستخبارات المركزية مع الموساد «الإسرائيلي» لقتل القائد في حزب الله عماد مغنية؟

كتب آدم غولدمان وإيلين ناكاشيما في «واشنطن بوست»:

في 12 شباط 2008، سار عماد مغنية، قائد العمليات الدولية في حزب الله، في شارع دمشقيّ هادئ بعد عشاءٍ ليليّ في مطعم هادئ. وليس بعيداً من هناك، كان فريق من مراقبي الاستخبارات الأميركية يلاحق خطواته بدقّة. وما إن اقترب مغنية من سيارة الدفع الرباعي المتوقفة جانباً، حتى انفجرت قنبلة مزروعة في الإطار الاحتياطي من الجزء الخلفي في سيارته، ما أدّى إلى انفجار موجة عارمة من الشظايا في دائرة ضيقة القطر، ومقتله على الفور.

حُرّك الجهاز عن بعد، وبالتحديد من «تلّ أبيب» بوساطة قيادات الموساد الذين كانوا يتواصلون مع عملائهم على الأرض الدمشقية. وقال مسؤول سابق في الاستخبارات المركزية الأميركية: «كان يمكن للولايات المتحدة أن تعترض على الطريقة التي أُعدّت بها العملية، لكنها لم تتمكن من إيقافها». ويضيف المسؤول: «ساعدت الولايات المتحدة الأميركية في إعداد القنبلة وأعادت اختبارها مراراً في منشأة تابعة لـCIA في ولاية كارولينا الشمالية، لضمان حدوث أضرار جانبية مدنية أقل… فقد اختبرنا هذه القنبلة أكثر من 25 مرة للتأكد من مدى فعاليتها بشكل دقيق».

إن التعاون الوثيق وغير الاعتيادي بين الولايات المتحدة الأميركية والاستخبارات «الإسرائيلية» يؤكد أهمية هذا الهدف ـ إنه رجل استطاع عبر سنوات التخطيط للعمليات الإرهابية الأكثر إثارة لحزب الله، بما فيها العمليتان ضدّ السفارة الأميركية في بيروت والسفارة «الإسرائيلية» في الأرجنتين.

لم تعترف الولايات المتحدة مسبقاً بالتورط في قتل مغنية، وكان حزب الله قد حمّل «إسرائيل» كامل المسؤولية عن هذه العملية. إذ لم يتضح ـ لغاية الآن كيفية زرع القنبلة أو الدور الأميركي بالتفصيل. وباستثناء عملية قتل زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن في أيار 2011، فإن عملية اغتيال مغنية تعدّ واحدة من أهم العمليات السرّية عالية الخطورة التي نفّذتها الولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية.

وتقول «واشنطن بوست» إن تورط الولايات المتحدة في عملية قتل قيادي في حزب الله، والتى أكدها خمسة مسؤولين سابقين في وكالة الاستخبارات، تعدّ تجاوزاً للقوانين الأميركية. وتوضح أن استهداف مغنية حصل داخل بلد لم تكن الولايات المتحدة في حالة عداءٍ معه، أو حرب ضدّه كذلك، فإن قتله بوساطة سيارة مفخخة، أسلوب يراه كثيرون من المراقبين والخبراء القانونيين انتهاكاً للقانون الدولي الذي يحظر «القتل غيلةً»، باستخدام الوسائل الغادرة لقتل العدو أو جرحه.

وقالت ماري إيلين أوكونيل، أستاذة القانون الدولي في جامعة نوتردام: «إن هذه الطريقة التي يستخدمها الإرهابيون والعصابات، تمثّل انتهاكاً لإحدى أقدم القواعد في ساحة القتال». وأكد مسؤولون أميركيون، الذين اشترطوا عدم ذكر أسمائهم، أنه على رغم أن العملية نفّذت في سورية، لكن مغنية كان على صلة مباشرة بتسليح الميليشيات الشيعية في العراق وتدريبها، تلك التي كانت تستهدف القوات الأميركية هناك، مؤكدين ضلوعه في تنفيذ التفجيرات الانتحارية والهجمات بالعبوات الناسفة. وأشاروا إلى وقوع الكثير من الجدل داخل إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش في شأن استخدام سيارة مفخخة في تنفيذ العملية.

وتلفت الصحيفة إلى أن العملية كانت تتطلب موافقة من الرئيس بوش. وبحسب مسؤول استخباراتي سابق، فإن كلاً من النائب العام الأميركي ومدير الاستخبارات الوطنية ومستشار الأمن القومي ومكتب المستشار القانوني في وزارة العدل، وقّعوا بالموافقة على هذه العملية. ويؤكد هذا المسؤول أنّ الحصول على موافقة بتنفيذ عملية الاغتيال كان أمراً جاداً وصارماً. وأضاف: «كان علينا أن نظهر أنه يمثل تهديداً مستمراً للأميركيين، والتأكيد على أن هذه العملية تعتبر دفاعاً عن النفس، خصوصاً أنّ لمغنية تاريخاً طويلاً في استهداف الأميركيين، وتحديداً دوره في تخطيط الهجوم على سفارتنا في بيروت عام 1983».

الوصول إلى القاتل

سطّرت عملية دمشق تطوّراً فلسفياً داخل أروقة أجهزة الاستخبارات الأميركية التي أعقبت هجمات 11 أيلول 2001. فقبل ذلك، كانت حكومة الولايات المتحدة تنظر في كثير من الأحيان بضبابية نحو عمليات الاغتيال «الإسرائيلية»، وأبرزها إدانة الولايات المتحدة «إسرائيل» بسبب محاولتها الفاشلة في تسميم قائد «حماس» خالد مشعل في العاصمة الأردنية عمّان عام 1997. فكان أن انتهت العملية بالقبض على عملاء الموساد، وقيام الإدارة الأميركية بإجبار «إسرائيل» على تقديم الترياق لإنقاذ حياة خالد مشعل آنذاك. جاءت عملية قتل مغنية بعد مضي عقد كامل على الحادثة السابقة، بعد انشغال الولايات المتحدة الأميركية بسبب التورط في عمليات القتل في كلّ من الباكستان، اليمن والصومال، حيث تنشر وكالات الاستخبارات أو الجيش طائرات من دون طيار ضدّ «القاعدة» وحلفائها.

وقال مسؤول أمني أميركي سابق، أن إدارة بوش اعتمدت على نظرية الدفاع عن النفس لتبرير قتل مغنية، مدّعيةً أنه يشكل هدفاً مشروعاً بسبب تخطيطه المستمرّ لاستهداف القوات الأميركية في العراق، جاعلةً منه تهديداً خطِراً ومتنقلاً لا يمكن القبض عليه.

حرب الظلّ

وحين وفاته، كان مغنية قد تورّط في قتل المئات من المواطنين الأميركيين، بدءاً من تفجير السفارة الأميركية في بيروت الذي قُتل فيه 63 شخصاً، بينهم ثمانية مسؤولين من وكالة الاستخبارات الأميركية. فحزب الله، المدعوم من إيران، لديه تاريخ طويل من المشاركة في حرب الظلّ طويلة الأمد مع «إسرائيل» والمدعومة من الولايات المتحدة الأميركية. كرّس تفجير السفارة ذاك، حزب الله هدفاً مباشراً لوكالة الاستخبارات الأميركية، وكذلك التحضير لاستهداف قيادييه المخططين أمثال مغنية.

وفي كتاب «الحجاب» للصحافي الشهير في «واشنطن بوست» بوب وودوورد، يؤكد كاتبه أن مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام كايسي شجع رعاية المملكة العربية السعودية قتل الأمين العام لحزب الله. فكان أن فشلت محاولة اغتيال محمد حسين فضل الله في تفجير سيارة مفخخة عام 1985، بعد أن قُتل أكثر من ثمانين شخصاً، وفرار فضل الله إلى إيران. وكان مغنية قد أُدين من محكمة اتحادية أميركية بخطف طائرة «TWA» رقم «847»، بعيد إقلاعها من أثينا في اليونان وقتل غطاس البحرية الأميركية روبرت ستيثام، الذي كان على متنها. ليصبح مغنية على رأس قائمة المطلوبين الإرهابيين لمكتب التحقيقات الفيدرالي، مع مكافأة بلغت خمسة ملايين دولار أميركي لمن يستطيع توفير معلومات تؤدّي إلى اعتقاله وإدانته.

كما وتشتبه الاستخبارات الأميركية في تورطه في تفجير أبراج الخُبر في السعودية عام 1996 والذي أسفر عن مقتل 19 جندياً أميركياً. أما «إسرائيل»، فقد اتهمته بتنفيذ عدد من الهجمات، كالهجوم الانتحاري الذي نُفّذ ضدّ سفارتها في بيونس آيريس عام 1992، والذي قتل فيه أربعة مدنيين «إسرائيليين» و25 أرجنتينياً، والهجوم على مركز الجالية اليهودية في العاصمة نفسها عام 1994 والذي أسفر عن مقتل 85 شخصاً.

إذاً، لطالما اعتبرت الولايات المتحدة، حزب الله، وتحديداً عماد مغنية بمثابة تهديد واضحٍ لها ولمصالحها. ففي عام 2008، وبعد شهور قليلة على مقتله، يؤكد مايكل تشيرتوف، وزير الأمن الداخلي، أن حزب الله يشكل تهديداً لأمن الولايات المتحدة القومي، ويضيف: «وكي نكون صريحين، فإن هذا الحزب جعل تنظيم القاعدة يبدو لاعباً مبتدئاً مقارنةً بقدراته».

وبالنسبة إلى الكاتب ماثيو ليفيت، الذي أصدر مؤخّراً كتاباً حول حزب الله، والذي يدير برنامج مكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد «شتاين» في واشنطن، فإن حزب الله، ومع بداية عام 2003، أصبح حليفاً أساسياً لإيران، وبدأ بتدريب المجموعات الشيعية في العراق، والتي أصبحت القوات الأميركية هناك، في ما بعد، من أبرز أهدافها.

أثبتت ميليشيات حزب الله المدرّبة أنها عدوّ قاتل، تستطيع قتل وجرح المئات من الجنود الأميركيين. فبعد تدهور الأوضاع في العراق، وارتفاع عدد خسائر قوات التحالف عام 2006، قرّرت الولايات المتحدة أنّ الوقت قد حان لاتخاذ قرار بإيقاف عديد خسائرها البشرية.

القتل أو الاعتقال

أصدرت إدارة بوش قراراً بقتل العملاء الإيرانيين الذين يستهدفون القوات الأميركية ويسعون إلى زعزعة أمن العراق أو اعتقالهم. كما وافقت على قائمة من العمليات التي تستهدف حزب الله. ووفقاً لمسؤول أميركي سابق خدم في بغداد، فإن «الصلاحية لإيجاد مغنية وقتله ومن معه كانت مفتوحة الآفاق».

ومن غير المعروف متى كانت المرة الأولى التي لاحظت فيها الاستخبارات المركزية الأميركية أن مغنية كان يعيش في دمشق، لكن من المؤكد أنها استطاعت معرفة أماكن وجوده قبل سنة على الأقلّ من مقتله. ويقول مسؤول رفيع في الاستخبارات الأميركية إن «إسرائيل» كانت هي التي أشارت للولايات المتحدة للقيام بتنفيذ عملية مشتركة لاغتيال مغنية في دمشق. فللوكالة الأميركية بنى تحتية قوية وراسخة في دمشق تستفيد منها «إسرائيل» دوماً.

ويقول مسؤول آخر، إنّ الأميركيين و«الإسرائيليين» نظروا إلى هذه العملية على أنها انتقامية، إذ بدا أن الولايات المتحدة لن تخشى الكثير بعد تصفية مغنية، لأن حزب الله سيلوم «إسرائيل» على هذه الفعلة، من دون أدنى شك.

ومنذ اللحظة الأولى لمعرفة مكان سكن مغنية، قام عملاء الاستخبارات برسم خريطة «نمط حياته»، للكشف عن مَواطن الضعف فيها، وعند انفجار القنبلة تلك الليلة، كانت الاستخبارات قد حدّدت «منطقة القتل» في محيط لا يزيد على ستة أمتار!!!

لام نصر الله، الأمين العام لحزب الله، «إسرائيل» على قتل مغنية وأقسم بالأخذ بالثأر: «أيها الصهاينة، اذا كنتم تريدون حرباً مفتوحة، فلْتكن في كل مكان». والحقيقة أن حزب الله يدرك جيداً أن خسارة مغنية تعني خسارة رجل كان على رأس قائمة الأهداف «الإسرائيلية». ونذكر هنا أنه أحد المشتبه بهم في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لكن رئيس الحزب عمل على التقليل من شأن دور التجسّس في هذه العملية.

وقد لخّص رئيس الوزراء «الإسرائيلي» آنذاك إيهود أولمرت عملية اغتيال مغنية عام 2008 بما يلي: «ترفض إسرائيل أيّ محاولات للجماعات الإرهابية لتوريطها في هذا الحادث. ولن نضيف المزيد في هذا الخصوص». ولم يلبث أن صرّح المتحدّث بِاسم وزارة الخارجية الأميركية شون ماك كورماك: «مما لا شكّ فيه أن العالم أصبح مكاناً أفضل من دون هذا الرجل. كان قاتلاً بدم بارد، قاتلاً جماعيّاً، وإرهابيّاً مسؤولاً عن فقدان عددٍ لا يُحصى من الحيوات البريئة».

دور «إسرائيل»

وعن دور الكيان الصهيوني الغاصب في عملية الاغتيال كتب كل من يوني هيرش ودافيد بارون في صحيفة «إسرائيل اليوم»:

لقد كان لـ«إسرائيل» أيضاً حساب طويل مع مغنية، بسبب مشاركته في بضع عمليات منها تفجير السفارة «الإسرائيلية» في بيونس آيرس في 1992 وتفجير مبنى للجالية اليهودية في المدينة بعد سنتين.

طوال سنوات نجح مغنية في التملص من أجهزة الاستخبارات إلى أن قام رئيس الموساد في 2007 بإبلاغ الـ«CIA» بأن مغنية يختفي في دمشق. رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية حينذاك مايكل هايدن، طالب مصادقة الرئيس الأميركي في ذلك الحين، جورج بوش الابن. ردّ بوش لم يستغرق سوى نصف دقيقة عندما قال: نعم، لماذا لم تقوموا بذلك حتى الآن؟ الله معكم.

في هذه المرحلة، لم يكن السؤال هو ماذا إذا، ولكن كيف نصفّي مغنية. إن خيار تسميمه أو اطلاق النار عليه عن طريق قنّاص أُسقِط من الحساب لأن دمشق في ذلك الحين كانت مكتظة برجال الاستخبارات السوريين. «إذا كنا سنطلق النار كان يجب التأكد من موت الرجل»، هكذا فسّر أحد قادة الاستخبارات، «يجب الاقتراب منه. ولكن كيف سيتم تهريب القاتل؟ حتى لو كان الحديث عن قناص سيطلق النار من بعيد. يجب أن يكون لديه طريق للهرب قبل قيام السوريين باغلاق المنطقة. كما لم يكن هناك خيار خطفه، لهذا وقع الاختيار على استخدام القنبلة».

وهنا برزت مشكلة جديدة. مرّت أشهر في محاولة اختيار ما هي العبوة المناسبة. واستبعدت «CIA» عبوة بعد أخرى لأنها كانت كبيرة جداً. وزاد الاحباط أيضاً في «إسرائيل»، «لو كان الامر متعلقاً بهم، لكان مغنية قد مات منذ زمن»، قال المصدر الأميركي. في نهاية الامر صمم وركّب الأميركيون عبوة خاصة، وصُمّمت بحيث تكون كل قوتها التفجيرية موجهة باتجاه واحد، جُرّبت العبوة على الاقل 25 مرة في مكان سري للاستخبارات الأميركية في «أوروي بوينت» في شمال كارولينا. بالمناسبة أنشئ هناك مبنى يشبه مخبأ بن لادن تمهيداً لتصفيته.

في هذه الاثناء، في دمشق، واصل عملاء «CIA» والموساد تعقب مغنية والتعرف على نظام حياته اليومي من أجل تحديد نقطة ضعف. كما أن وحدة الشرق الاوسط لـ«CIA»عملت على تهريب العبوة إلى دمشق. «كان يجب الحصول على سيارة في دمشق نفسها»، قال أحد المشاركين في العملية. «وكان يجب تهريب العبوة إلى سورية عن طريق الحدود الأردنية».

في عيد الميلاد 2007 وصلت العبوة إلى العميل الأميركي في دمشق، الذي قام بشراء جيب «ميتسوبيشي»، وركّب العبوة في الدولاب الخلفي، وقام رجال «CIA» باستئجار شقة ليست بعيدة عن مكان التصفية المتوقّع موقف للسيارات في شارع محمود الفحاني في حي كفرسوسة الراقي في مركز دمشق. وبدأ انتظار اللحظة المناسبة.

كان يمكن للقائمين على التصفية وضع السيارة في بضع مربعات للتوقف قرب المبنى، ولكن واحدة منها كان يمكنها خلق القوة الأكبر للتفجير. المشكلة الثانية كانت التنسيق بين مكان السيارة الصحيح وبين اللحظة الصحيحة حيث يكون مغنية وحده. «إما أن يكون مع شخص آخر أو أن هناك أولاد يتجولون في المنطقة، أو مارة، أو أنه لم يكن في دمشق»، قال أحد الأميركيين، «التوجيهات كانت واضحة، ممنوع أن يصاب أحد غير مغنية»، «وهكذا مرّ مغنية عشرات المرات قرب السيارة المفخّخة ولم نضغط على الزر».

إذاً، لم يكن كافياً إيجاد اللحظة المناسبة، كان هناك أيضاً فرق الثانيتين بين التشخيص المؤكد وبين نقل التقرير عن التشخيص إلى هيئة الموساد ومنه إلى تشغيل العبوة في دمشق. انقضى شهران من التعقب والانتظار حتى جاءت الفرصة المناسبة: مرّ مغنية قرب الجيب المتوقف في المكان الصحيح وكان وحده. تأكدنا من شخصيته بوساطة تكنولوجيا لتشخيص الوجه، وعندئذٍ… «بوووم»، مزّق الانفجار مغنية إلى أشلاء.

الرسالة: أنتم لا تستطيعون من دوننا

وكتب يوسي ملمان في صحيفة «معاريف»:

يصعب التصديق أن التوقيت كان صدفة. فالذي سرّب التفاصيل عن اغتيال عماد مغنية قبل سبع سنوات، لا سيما لصحيفة مثل «واشنطن بوست» و«نيوزويك»، لم يقم بذلك صدفةً. يبدو أن هناك من أراد نقل رسالة لـ«الشعب في إسرائيل» ولرئيس الحكومة: أنتم لا تستطيعون من دوننا. أنظروا إن كان التعاون وطيداً بين جهازَي الاستخبارات للدولتين، ومن شأنه أن يتضرّر من سياسة رئيس حكومتكم. هذا هو الجوهر المخفي للرسالة المسرّبة.

التسريب كان مفاجئاً لأن الولايات المتحدة لم تعتد أن تعترف بقيامها بعمليات سرية إلّا إذا أخذت المسؤولية عنها على عاتقها. في حادثة مغنية لم تعترف لا الولايات المتحدة ولا «إسرائيل» بالعملية، وحتى الآن ما زال هناك مجال للإنكار. فليس حكم المسرّب المجهول كحكم اعتراف رسمي من الحكومة. في ما يتعلق بالتفاصيل هي أقل أهمية ويبدو أن جزءاً منها ليس دقيقاً. مما تم نشره في وسائل الاعلام الأميركية نتج انطباع بأن هناك في الولايات المتحدة من أراد أن يأخذ النصيب الأكبر من نجاح العملية.

وبحسب ما نُشر، ففي العملية المشتركة التي صُفي فيها «وزير دفاع» حزب الله، كانت «CIA» هي الشريك الأكبر والموساد هو الشريك الاصغر.

يمكن أن يكون الحديث مبالغاً فيه والحقيقة تختلف تماماً. الحقيقة هي أن الموساد كان هو الجهة المسيطرة. هذا الانطباع يتكون حتى من قراءة التقارير إذ قيل فيها إن المعلومات الاستخبارية عن حركة مغنية في دمشق والتي كان له فيها شقة سرية، جلبتها الاستخبارات «الإسرائيلية». كما كُتب أن المبادرة لتصفيته جاءت من مائير دغان رئيس الموساد في حينه، على رغم أنه ذُكر أيضاً أن أوساطاً من الاستخبارات والجيش الأميركي طرحوا هذه الامكانية بأنفسهم نظراً إلى أنه كان لهم حساب مع مغنية، إذ كانت يداه ملطختين بدماء المئات من الأميركيين. في نهاية المطاف كان مغنية هدفاً مهما لـ«إسرائيل»، أكثر من الولايات المتحدة، إذ طاردته لسنوات طويلة. كما كُتب أيضاً أن القنبلة التي وضعت في سيارته تم تطويرها وتركيبها وتجربتها في الولايات المتحدة، لكن تشغيلها كان من قبل «إسرائيل».

يُسمع في التقارير ما بين السطور تفاخراً أميركيا بأن عملاء «CIA» كانوا موجودين على الارض حين تصفيته في دمشق. يمكن التقدير أنه إذا كان الموساد شريكاً في العملية فإن رجاله ـ رجال الحربة كما نشر في وسائل الاعلام الاجنبية وفي كتاب «عملاء ضدّ يوم الآخرة» للصحافي الأميركي دان رفيف وأنا ـ كان لهم وجود محترم جدّاً في المكان.

كُتب في الصحف الأميركية عن مشاركة الاستخبارات الأردنية. أيضاً هذا ليس مفاجئاً لمن يعرف عن العلاقات الوطيدة بين الدول.

يمكن التقدير أن نصيب «إسرائيل» في التصفية كان أكثر من نصيب الولايات المتحدة، ولكن الامر هنا لا يتعلق بمن يسجل في حسابه رصيداً أكبر.

على رغم أن الرسالة موجهة إلى «الشعب» ورئيس الحكومة، فإن النشر يمكن أن يخدم أيضاً مصلحة «إسرائيل» الأمنية. فهم يتحدّون حزب الله ويضعونه وإيران أمام وضع صعب: ليست «إسرائيل» وحدها التي تواجهونها، إنما أيضاً الولايات المتحدة الأميركية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى