رأى روسّو في الدين هدايةً وفي التمييز بين المذاهب والشيع تمزيقاً للأديان والأوطان واعتبر مونتسكيو الملكيّة نظاماً شاذّاً ينتهي إلى حكم استبداديّ مطلق
كتب محمد زكريا توفيق ميدل ايست أونلاين: الدين بالنسبة إلى كوندورسيه، ينبغي حصره فى أمور الهداية والأخلاق للفرد فحسب، ويجب ألاّ يتدخل فى أمور البشر الفكرية والسياسية. كوندورسيه هو رائد تحرير المرأة ومساواتها بالرجل فى جميع الواجبات والحقوق، وبينها الحقوق السياسية. هو بطل التعليم العام المجاني لجميع أفراد الشعب، وهو المطالب بإعادة كتابة التاريخ بطريقة موضوعية خالية من العواطف والتحيز. كتابه «النشرة التمهيدية»، وكذلك كتاب فولتير «مقالات في السلوك»، يعتبر عملا فلسفياً عن الحضارة الحديثة، مبيّناً حركة التاريخ عن طريق التقدم الحضاري للشعوب، وقدرة الإنسان المطلقة على التقدم على مرّ التاريخ. لذا يسعنا القول إن كوندورسيه عالم وفيلسوف مهموم بمشاكل البشر، ورائد من رواد الليبرالية الحديثة، وأحد مكوّني عقل الإنسان الحديث وضميره.
أما ديدرو، المشرف على إصدار «موسوعة الفنون والعلوم والحرف»، فحرّر العديد من فصولها، وهو من قادة حركة التنوير ورئيس تحرير أول موسوعة حديثة. عقلانية ديدرو تبلورت إلحاداً. أما روسو وفولتير فكانت عقيدتهما «الربوبية»، أي الإيمان بوجود الربّ أو الله، لكن من دون أنبياء وكتب مقدسة ومؤسسات دينية. وإيمان روسو بالربوبية كان أكثر رقة من إيمان فولتير. كان روسو يقول إن الله يمكن الإحساس بوجوده، لكن لا يمكن برهان هذا الوجود. الإيمان بالله لدى روسو، لا يعني رفض التصوف والمعجزات، مثلما هي الحال لجميع المؤمنين بالربوبية في عصره. وكتاب روسو «العقد الإجتماعي» أهم أعماله، يعالج فيه الأساس القانوني للحكم الجمهوري، ومنذ صدوره عام 1762 بات من أهم مصادر الفكر السياسي الحديث في العالم الغربي. ونعرف جميعاً الصيحة الجريئة التي استهل بها الفصل الأول: «ولد الإنسان حراً، وهو في كل مكان مكبل بالأغلال». هذه العبارة أضحت شعار قرن كامل. افترض روسو وجود حرية و»حالة طبيعية» بدائية للإنسان، لم يكن يعرف فيها قوانين أو قيوداً، لذا اتهم المفكر الفرنسي الدولة القائمة وسلطاتها بتدمير هذه الحرية، وهو يقترح بديلاً من ذلك ابتكار شكل جديد للمجتمع يحمي حقوق أعضائه ويحفظ أملاكهم. مجتمع يعيد للإنسان حريته التي فقدها، حريته التي كان يتمتع بها ماضياً.
يقول روسو إن ثمة عقداً اجتماعياً. ينجم عن اتفاق الأفراد على إخضاع، رأيهم وحقوقهم وسلطاتهم لإرادة مجتمعهم. كل شخص يصبح طرفاً في مثل هذا العقد ويقبل حماية القوانين العامة التي تحكم هذا المجتمع. طاعة القانون هي التي تحرر الإنسان من العبودية. إذا سقطت القوانين عمت الفوضى وظهر من يستعبدك. الدولة تصبح جمهورية متى حكمتها القوانين. أما إذا كان الحاكم هو الذي يضع القوانين وينفذها، فليست هناك جمهورية أو دولة، بل طاغية يحكم عبيداً. ورفض روسو فكرة «الاستبداد المنير» أو «الحاكم العادل» كنظام للحكم.
العقد الاجتماعي يسمح بالملكية الخاصة، شرط رقابة الجماعة، لذا يجب أن تحتفظ الجماعة بحقها في مصادرة الأملاك لخير المجتمع. كما يجب أن تحدد الملكية ويعاد توزيع الثروة عن طريق الضرائب التصاعدية. والدين لتدى روسو، ضروريّ للفضيلة، فما قامت دولة من دون أساس ديني، إلاّ أن رجال الدين لا يجب أن يكونوا فوق قوانين الدولة. كي لا ينقسم ولاء الوطن بتعدد الأديان.
يختلف روسو مع رجال الدين في ضرورة أن يكون الدين بسيطاً واضحاً من دون شروح غامضة ملتوية وتعقيدات غير لازمة. يجب أن يركز الدين على الإيمان بوجود إله قادر، وحياة أخرى، وقيم نبيلة، لا أكثر من ذلك. يتسامح روسو مع الأديان التي تتسامح مع غيرها. من يدعي أن دينه فحسب هو الصواب، أو يقول إن لا خلاص خارج الكنيسة يجب طرده من الدولة. الدين في مجموعه، هداية للبشر، فلا حاجة بنا إلى تعليق أهمية كبرى على الفروق بين المذاهب والشيع التي مزقت الأديان وأدمت أنوف الأوطان.
الأديان كلها خير، إن حسّنت السلوك وغذّت الرجاء. من السخف أن نعتقد بأن مصير أصحاب العقائد والأديان الأخرى الهلاك، «فلو لم يكن على الأرض سوى دين واحد صحيح، ولو حكم على جميع الخارجين عنه بالعقاب الأبدي، لكان إله هذا الدين أظلم الطغاة وأقساهم».
كتاب «الرسائل» لمونتسكيو، يُظهر أن المَلَكيّة نظام شاذ غير سوي، ينتهي حتماً إلى حكم استبدادي مطلق. الحاشية فاسدة، والنبلاء خاملون مبذرون يسيئون إدارة أموال الدولة. لكنه يمتدح جمهوريات اليونان وروما القديمة وهولندا وسويسرا الحديثة. الحكومة أمر ضروري. شرّ لا بد منه. إنما يجب أن تكون قائمة على الفضيلة والأخلاق. بيد أن انتقادات مونتسكيو الدينية كانت أكثر قسوة. ورد «الرسائل»، على لسان أوزبك، أن الزنوج يتصوّرون أن الإله أسود البشرة غليظ الشفتين أشعث الشعر، وأن الشيطان أبيض البشرة أصفر الشعر أزرق العينين، على عكس صورتي الإله والشيطان لدى الأوروبيين. وكان ينتقد عقيدة التثليث عند المسيحيين وحصول المعجزات.
الساحر «علي بابا» يحث الناس على الاعتقاد بأن الخبز ليس خبزاً والخمر ليس خمراً. ويسخر من اختلاف المذاهب المسيحية، والمسابح وثياب الرهبان الفضفاضة المذهبة. وأفزعته محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال حيث كانت تحرق الناس بلا رحمة، مثل القش، باسم الدين. امتناع الرهبان والراهبات عن الزواج وتحريم الطلاق سوف يعوقان ازدياد السكان في كل من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا. الرهبان خاملون يستولون على ثروات الدولة كلّها تقريباً عن طريق الوقف، فلا تتداول هذه الثروات ولا تستغل في التجارة أو الصناعة. كان مونتسكيو يسخر من الاضطهاد العنصري، ويقول على لسان أوزبك: «أنت تعلم ياميرزا كيف أُجبِر الأرمن على مغادرة المملكة أو الدخول في الإسلام. اعتقاداً منهم أن هؤلاء الكفار يلوّثون المملكة. اضطهاد هؤلاء الكفار عبدة النار، جعلهم يفرون إلى الهند الشرقية، ما حرم البلاد من شعب جاد نشيط. هذا التعصب الأعمى سوف يتسبب بتدمير الصناعة، ومن ثم البلاد، حاملة معها الديانة التي نريد حمايتها».
وجد مونتسكيو ضالته في نظام الحكم الإنكليزي، فالملك يكبح جماحه مجلس العموم، ومجلس العموم يكبح جماحه مجلس اللوردات. وكان معجباً بمذهب الرواقيين، ويعتبر القضاء علي مذهبهم محنة ابتلي بها الجنس البشري. فهذا المذهب وحده هو الذي صنع الموطنين وعظماء الرجال. الحرية لدى مونتسكيو حق لكل إنسان، طالما كانت في ظل القانون. وكان يستهجن الرق لأسباب أخلاقية. وكان يعترف بالله كعقل تعبر عنه قوانين الطبيعة وروح القوانين، لكنه يعتقد أن المعجزات لا تلائم طبيعة الإنسان. لا يمانع من وجود شرائع دينية تكمل القوانين المدنية، شرط ألا تلغيها. وجود القوانين المدنية يحدّ من استبداد الشرائع الدينية، وينبغي أن تكون كلّ من الدولة والكنيسة رقيبة على الأخرى، كي يحدث التوازن.
أما فولتير، فأعلن الحرب على التعصب وانعدام التسامح الديني الذي استعبد أوروبا لألوف السنين. يقول:
«كفى حرقاً للكتب، وإطاحة لرؤوس الفلاسفة، وإعدام الأبرياء، بحجة أنهم يدينون بديانات مختلفة. هذا عار يجب أن يمحى. يجب أن يتحرر الإنسان من خرافات العصور الوسطى، ومن سلطة الحكومة الدينية. يجب أن يحكم الإنسان بالحجة والعقل».
في رسالته عن التسامح الديني، في كتابه «قاموس الفلسفة»، يؤكد على حرية العقيدة وينتقد الخطاب الديني الرسمي، وينادي بفصل الدين عن الدولة، ويبتهل إلى الله على هذا النحو:
«إلهي، ألتجئ إليك، يا خالق كل شيء، أن لا تجعل الكره والبغضاء يستشريان بين البشر، بسبب الفروق التافهة بين ملابسنا أو قوانيننا، أو لغاتنا المختلفة، أو عاداتنا المضحكة، أو آرائنا الغبية، أو مراكزنا الاجتماعية. هذه فروق تبدو عظيمة لنا بسبب جهلنا، لكنها ليست فروقاً على الإطلاق بالنسبه إليك. فاجعلهم يتذكرون دائماً أنهم لا يزالون إخوة وأخوات».
فكر الأنوار هو بداية العالم الحديث، فمعظم أفكار العصر الراهن وفدت من ذاك الزمن: الديموقراطية، العقلانية، التجربة، الحقوق الطبيعية، المنهج العلمي، التعليم العلماني، الحرية، والتقدم، إلخ.
جلد الذات والشعور بالذنب، وعدم الثقة في النفس، والاتكال على القوى الخارقة للطبيعة، والامتثال للسلطة، والتضحية بالحياة الدنيا واحتقارها لأجل الحياة الأخرى، وثنائية النظرة للأمور: الرب والعبد، السماء والأرض، الدنيا والآخرة، الروح والجسد، الخير والشر… هذه الأمور كلّها التي جاءتنا من العصور الوسطى، تم التغلب عليها. أصبح الإنسان الآن يواجه الحياة مملوءاً ثقة بالنفس. أضحى يعرف قدراته ويأمل في غد أفضل يتغلب فيه على مشاكله وآلامه.
حطّم عصر الأنوار فكرة الحق الإلهي للحاكم وأتى بالحكم الدستوري. حجّم الدين وحصره في وجود الخالق والقيم الخلقية. عصر الأنوار أعطى الإنسان الأمل وقدم إليه من المساعدة أكثر من أي دين آخر.
أصبح فكر الأنوار مثل الدين الجديد. العقل هو الرب. والقوانين العلمية هي الإنجيل، وفولتير وأمثاله هم الأنبياء. أعطانا العلم نمطاً جديداً من الحقيقة. والعقلانية طغت على الأفكار الموروثة كافة.