أسئلة «الثورة» بين أوهام المثقفين وتسلّط السياسيين… بحثاً لأيمن تعيلب
يؤسس الناقد والكاتب د. أيمن تعيلب في كتاب «أسئلة الثورات العربية» الصادر حديثاً في مجلدين ضخمين لدى «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، رؤية استراتيجية للدفع بالمجتمع المصري إلى تحقيق أهداف ثورته في 25 يناير، من خلال رصد وتحليل وقراءة الآليات السياسية والثقافية والاعلامية والاجتماعية التي رسختها أنظمة الحكم منذ ثورة 1952 حتى قيام ثورة 25 يناير، وخاصة في نظام حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، سعياً إلى استشراف واكتشاف وما يحتاج إليه المجتمع من إعادة الهدم والبناء والتركيب.
يطرح تعيلب في الجزء الأول تساؤله المحوري: هل يمكن رفع حالات الأجساد الثائرة بوصفها تدفقاً ثورياً جسدياً خاماً إلى أشكال معرفية تخييلية تؤسس لتصورات ثقافية وسياسية وتاريخية جديدة في واقعنا الجمالي؟
في الثاني يطرح سؤاله: هل يمكن اكتشاف جماليات خاصة بشعريات الثورات العربية في شعرنا العربي القديم والمعاصر؟ وإذا كان لهذا الفرض النقدي صدقيته من الواقع التاريخي، فما هي الأشكال الجمالية والمعرفية التي جسدت هذه الشعريات الثورية في خطابنا الشعري المعاصر والقديم أيضاً؟ وربما كان هذا الكتاب ـ بحسب قوله ـ محاولة نقدية تأسيسية أولى للتحقق العلمي والمنهجي من صدق فرضياتنا.
يتوقف بدءاً عند مصطلح الثورة في الأدبيات السياسية والثقافية وأسباب وأشكالها، والإرهاصات السياسية والاجتماعية والإقتصادية للثورة، ليرسم بعد ذلك بورتريه للديكتاتور المخلوع، ثم يطرح أسئلة الثورة وتفكيك الخطاب الإعلامي، والإعلام وسيميائية التطويع والترويع، ويمضي مع أسئلة الثورة إلي تفكيك بنية الفكر الحظائري، وتفكيك التوازنات الثقافية والسياسية الدولية، وتأسيس الإدراك العقلي الجماعي، وتفكيك الدال الاجتماعي، وإعادة بناء المعنى والتاريخ، ويحلل انفجار النموذج السياسي والديني التسلطي، والعلاقة بين «الإخوان» والمجلس العسكري. ويتطرق إلى أوهام الزعامة، والأوركسترا التي خلقتها الثورة من غير قيادة، والعازفين القدماء الذين يسرقون اللحن، وأسئلة الثورة بين أوهام المثقفين وتسلط السياسيين، وثورة 25 يناير وتأسيس علم اجتماع الغياب، متسائلاً أيضاً: هل الحضور السياسي الاجتماعي والثقافي واللغوي والقيمي الذي أسسته السلطة هو حضور فعلي؟ أم هو حضور تكمن وظيفته الأساسية في تغييب الحضور المادي التاريخي الفعلي على الدوام؟ ليختتم هذا الجزء بمحاولة وضع الأطر الرئيسية لتأسيس نموذج معرفي سياسي اجتماعي جديد.
يقول د. أيمن تعيلب إن الباحث في المصطلح القرآني للثورة لا يجد غير بضع آيات كريمات تحدثت عن الثورة لا في المعنى الانقلابي التغييري الطفري، كما هو معروف للثورات، إنما ضمن آيات تكلمت عن الفعل «ثار يثور»، ومشتقاته التي تفيد التغيير في الأرض أو العمران والتحديث، أو الحرث والتحريك، لكن القرآن الكريم نفسه كان ثورة مفهومية ومعرفية وعقدية وثقافية كبرى في الحياة العقلية والروحية للعرب، فالإسلام كان معنياً بإحداث نقلة ثقافية تحويلية شاملة في مفاهيم الوعي والعقل والروح والدنيا والآخرة لدى العرب، وهي ثورة تشمل جميع تصورات الحياة ومناحيها واهتمامتها وأهدافها القريبة والبعيدة المرئية واللامرئية. كان القرآن الكريم ثورة كلية شاملة على المستويات الدنيوية والأخروية كافة، وثمة فروق معرفية ومفهومية أساسية بين معنى ثورة الإسلام وثورات المسلمين، ذلك أن كل ثورة دينية روحية فكرية هي ثورة مدنية الطابع من حيث أن الذين يقومون بها بشر تنبع همومهم وطموحاتهم من واقع زمانهم، ومستجدات مكانهم، ومتطلبات تاريخهم وحركته المدنية العامة. ولذلك يجب أن نفرق بين ثورة يقوم بها بشر مسلمون، وثورة يقوم بها الإسلام نفسه كمفاهيم وتصورات عقدية ربانية، فليس بالضرورة أن كل ثورة إسلامية تحقق المفاهيم الإسلامية الربانية في صفائها الرباني الجميل كل ثورة يقوم بها الإسلام ذاته من خلال نصوصه هي ثورة ربانية حقيقية على المستوى النظري التجريدي والمستوي الفعلي، وعندما يقود الفكر الإنساني التاريخي تلك المفاهيم والتصورات تحدث بالضرورة الفجوة المفاهيمية الكبرى بين كمال واتساق، وشمولية المفاهيم الربانية العظيمة، وجزئية الفكر البشري التاريخي المحدود بحدود زمانه ومكانه، ووعيه وإدراكه، وهواجسه ومخاوفه.
يرى د. تعيلب أن إلغاء فكرة السياق التاريخي، ونفي فكرة الجدال، وإقصاء حركة الواقع والعقل بين الصواب والخطأ والهدم والبناء يمثل إحدى المكونات السردية الحكائية لطبيعة الواقع السياسي والثقافي المصري المعاصر. ويضيف: نجدها منتشرة في جميع أنحاء الجسد الاجتماعي والثقافي والسياسي والعلمي والديني والقانوني والخلقي العام، فلدينا واقع بلا وقائع، وأساتذة بلا تجارب ولا فكر خلاق ومؤسسات بلا كفاح ونضال وتأسيس ونظريات بلا تنظير أو تكييف جدلي تاريخي، أي لدينا مجتمع بلا مجتمع، وفي مثل هذا الواقع الثقافي السردي تنشر قوة الإغواء والإثارة والتخييل والظن والوهم والابتذال والسوقية، والقبح والتمويه والمراوغة، كما تتنامى بشكل سرطاني ثقافة الوهم والسماع التي ينبع فيها الواقع من فعل الحدث أو الخير ولا ينبع الخبر أو الحدث من الواقع المادي نفسه، بل نحن في حرباوية الوجود والواقع والسياسة والثقافة، ما يعني أن النظام السياسي التسلطي يدشن حرباوية الدولة الافتراضية السردية ليزرعها مكان الحقيقة الفعلية للواقع، كما تسد حرباوية الكذب الكامل والنهائي جميع منافذ اللغة والواقع والتاريخ والعقل والروح والمؤسسات والأحزاب والسلطات تسدها جميعاً بحرباوية تلوينات الكذب المنهجي المنظم والمسلح بمدرعات الدعاية والإعلام والصورة وأنظمة التواصل اللاتواصلي، التواصل السردي الوهمي القادر على ابتلاع الحقيقة كاملة في جوفه الظلامي الأخطبوطي.
إن هذا التكالب الإعلامي الشرس على الحقيقة وتدميرها وسحلها وذرها غباراً لا قوام له من واقع أو فعل أدى إلي نماء هذه السرديات السياسية الحرباوية في الواقع المصري بصورة سرطانية بنيوية مدوخة للعقل والمنطق والواقع والتاريخ. ويوضح أن هذه الدوخة الإيديولوجية الكاملة التي سبح فيها الواقع المصري بكامله على عهد الرئيس المخلوع ولا يزال يسبح فيها حتى الآن تؤكد أخطبوطية الإرهاب الإعلامي والدعائي والتعبيري في نفي وسحل قوة الواقع الثوري بطاقة الأسماء المزورة، وعنف اللغة السردية الوهمية الكذوبة في تعويم الإدراك المصري في لجة المصطلحات السردية، والتعبيرات الوهمية، حتى يتم تحويل الواقع المادي التاريخي إلى حالة ثرثرة إنشائية يتكالب عليها الجميع لنفي الجميع، ويتشارك فيها الجميع ضد الجميع.
هذا التكالب المفرط على الحقيقة لنفيها وتدميرها وسحلها جعل الواقع المصري الفعلي طافياً على الدوام في لجج التسميات الاصطلاحية الوهمية المتسارعة والمكررة لاقتلاع الواقع من كل ثبات وتحديد وتعيين، ثم تعيينه السردي الوهمي من جديد في واقع اللاتحديد واللاهوية.
في الجزء الثاني يسعى د تعيلب إلى التأسيس لجماليات «شعرية الثورة»، معرفياً وتخييلياً في خطابنا النقدي والشعري القديم والمعاصر، ومتسائلاً: «إذا كان هذا الفرض النقدي تعضده الوقائع السياسية والتاريخية والثقافية الثورية، فكيف تحققت هذه الشعرية على مستوى الخطاب الشعري العربي؟ وما هي الأشكال الجمالية والمعرفية والتخييلية التي جسدت هذه الشعريات الثورية في خطابنا الشعري المعاصر والقديم أيضاً؟ وهل يمكن اعتبار شعريات الحماسات العربية بذرة جنينية لشعريات التثوير؟ يقول: «إن هذا المشروع الجمالي والمعرفي يحتاج إلى باحثين ومفكرين ونقاد كثيرين بل يحتاج إلى تضافر معرفي وجمالي وفلسفي ولغوي وثقافي وسياسي، لتأسيس شعريات الثورات العربية، فهو مشروع بين معرفي، يخترق أكثر من معرفة وتخصص ومنهج في وقت واحد، ولا ندعي أننا قادرون بمفردنا على إنجاز ذلك، بل يكفينا شرف التنبيه وفتح الطريق أمام معظم الباحثين العرب لتأسيس هذا الباب الواسع من أبواب المعرفة التشعبية الدينامية المفتوحة، وربما كان هذا البحث محاولة نقدية ومعرفية وجمالية متواضعة للتحقق من صدق فرضيتنا العلمية السابقة. والتي آمل أن أضع لها أسساً معرفية وتخييلية ومنهجية في هذا الكتاب».
الطرح المعرفي والجمالي فى هذا الجزء مختلف ـ وفقاً للمؤلف ـ عما كتب قبلاً في أدبيات الخروج والتحريض والهجاء السياسي، ليست الغاية تتبع ألوان الهجاء السياسي الذي أبدع فيه شعراء كثيرون على مدار الشعرية العربية قديماً وحديثاً، في هجو الحاكم أو القاضي أو الحاجب أو المرتشي أو التمرد على بعض القيادات التنفيذية في الدولة، فليست الغاية شعرية التمرد، أو شعرية الخروج والرفض، أو شعرية الاستغاثات برجال السلطة ضد ظلم الولاة والحجاب قديماً وحديثاً، أو الشعر السياسي للفرق الإسلامية المختلفة والمتعددة عبر الجماليات الشعرية العربية، أو شعريات الحرب، وهي أدبيات سياسية كثيرة في موروثنا الشعري العريض، فالبحث هنا لا يتجه صوب شعرية الحروب والمعارك وأيام العرب ووقائعها وانتصاراتها وهزائمها.
ينصب هذا الكتاب رأساً على شعرية أشكال الثورة وهو مصطلح مغاير معرفياً وتخييلياً عن جميع التصورات الجمالية والمعرفية السابقة التي تحدثت عن شعريات: الرفض أو التمرد أو السجن، أو الاغتراب، أو الخروج والتجاوز، ورغم التداخل المفهوميّ بين جميع هذه المصطلحات غير أنها تختلف من وجوه كثيرة. يقول المؤلف: «من هنا فقد تراءى لي أن من الضرورى إعادة تأسيس العقل النقدي العربي، وفق مفاهيم ومصطلحات تحقيلية تشعبية تكون قادرة على توسيع مجالات المصطلح النقدي من خلال إعادة بناء المفهوم الفلسفي نفسه. هذا من ناحية، وتوسيع حدود الجماليات الثورية في موروثنا الثقافى والشعري والنقدي من ناحية أخرى، بما يلم شعثها ويمهد منآداها، فهناك قضايا جمالية وثقافية كثيرة في موروثنا الشعري والنقدي تتسم بالتبعثر والتشتت، وأحياناً يتم تصنيفها والربط أو الفصل بينها غالباً على أسس فكرية وجمالية سطحية من التشابه والاختلاف السريعين، والسبب في ذلك راجع إلى أنها لا توضع في سياقها النقدي الثقافي الواسع القائم على مفاهيم تشعبية دينامية تداخلية: مثل مفاهيم التحقيل التخييلي، والتشعيب المفهومي، والتأثيل المعرفي، ما يدرجها في سياق ثقافي جمالي أوسع بما يعيد تفكيكها ودمجها وتركيبها وتحقيلها لتتجاوز التصنيفات الجمالية والبلاغية المتناثرة السائدة، وربما يكون في إعادة بناء المفاهيم والتصورات من جديد هو لون من ألوان الشجاعة الفكرية والتخييلية الجسورة التي تحتاج إلى جهود الأمناء المخلصين الذين لا يرومون سوى خدمة العلم في ذاته بعيداً عن الحذلقات الأكاديمية واللألعاب المنهجية الشكلية، ولعل في هذا ما يعيد ابتكار تصورات جديدة للغة والمعنى والواقع والخيال والتاريخ العربي الجديد».