الأردن و«داعش»
راسم عبيدات
لم يكن «داعش» طفرة في المجتمعات العربية أو وليد صدفة أو لحظة عابرة، بل هو وليد بيئة بترودولارية وفرت له كلّ مقومات الوجود والنمو والتطور والتطرف لعشرات السنين.
نما «داعش» في صحراء البداوة، وتغذى على فكر ابن تيمية التكفيري، فأموال النفط المغدقة عليه وحرية العمل الممنوحة له، جعلته يقيم بنية تحتية واسعة من المؤسسات الإغاثية والتعليمية والاجتماعية والدينية، ناهيك عن قنوات ووسائل الإعلام التي جرى توظيفها في خدمة هذا الفكر، حيث جرت صياغة المناهج التعليمية والتربوية في أكثر من بلد عربي وخليجي وفق فكر ابن تيمية الوهابي التكفيري، وكان هذا الفكر ينتقل إلى المشرق العربي من خلال العاملين في دول الخليج العربي أيام الطفرة والوفرة النفطية.
العائدون من هناك متخمون بالمال النفطي والفكر التكفيري، وفي الأردن غضت الدولة النظر عن أنشطتهم في المساجد والمدارس والجامعات، وتمّ توظيف تلك الجماعات من أجل بثّ الرعب والتخويف بين الناس لحرف أنظارهم عن الهموم والمشاكل الأساسية من جوع وفقر وبطالة وغياب للحريات ومأسسة للفساد وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وشيئا فشيئاً بفعل البترودلاور وما تتلقاه تلك الجماعات من دعم وتمويل، وفي ظلّ غياب ردّ الفعل من قبل دعاة النهج الوطني والقومي من ساسة ومفكرين وإعلاميين وكتاب وأدباء، بدأ المشهد يظهر سيطرة هذه الجماعات التكفيرية على الوعي العام.
لكنّ الجماعات الإرهابية والتكفيرية، يصعب السيطرة عليها، وتشبّ على طوق من يربونها ويحتضنونها، كما حصل مع «القاعدة» وجماعات العرب الأفغان الذين وظفتهم أميركا وعربان مشايخ النفط الخليجي لضرب الوجود السوفياتي الشيوعي في أفغانستان، حيث انقلب السحر على الساحر. جرى توظيف «داعش» وغيره من المسميات المنتمية إلى نفس المنبت والجسم من قاعدة ولد من رحمها «داعش» و«جبهة نصرة» و«جيش الإسلام» المستولدين من «الجبهة الإسلامية» من قبل أكثر من طرف عربي وإقليمي ودولي، لكلّ أهدافه ومصالحه من هذا التوظيف، وإن كانت جميعها تلتقي حول تدمير وتفكيك عوامل المشروع القومي العربي في مفاصله الأساسية كدول مدنية وجيوش وطنية العراق وسورية ومصر .
أصبح «داعش» يشكل تحدياً علنياً للنظام الأردني وسياسته في الجنوب الأردني على وجه الخصوص، وحاول فرض سيطرته على الوعي العام، وبالذات في أوساط الشباب وفي المؤسسات التعليمية ودور العبادة والمساجد وحلقات الذكر والدروشة وغيرها.
ارتكب «داعش» جريمته الدنيئة والخارجة عن كلّ القيم والمعايير والتقاليد التي لها علاقة بالإنسانية والبشرية، وحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة وهو حي، تلك الجريمة التي يتحمل النظام الأردني مسؤولية حصولها، كونه رعى ويرعى مثل تلك الجماعات الإرهابية ويسمح بمرورها وعبورها إلى سورية ويوفر لها الدعم اللوجستي لتدير عملياتها في الشام من خلال غرفة عمليات موجودة على أراضيه.
وظف النظام الأردني تلك الجريمة البشعة من أجل تحقيق جملة من الأهداف، الخادمة له ولسياساته، فهو يوظف تلك العملية من أجل تعزيز مشروعية دوره في خدمة السياسة الأميركية، عبر تهيئة الشباب الأردني من أجل الانخراط في مشروع ما يسمى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، والتمهيد للمشاركة في الحرب البرية على الإرهاب في العراق وسورية، ضمن جيش ترعاه الولايات المتحدة الأميركية، وقوده الجيوش العربية ومنها الجيش الأردني. وهناك هدف آخر وهو طمس وإسكات أي أصوات وطنية وقومية أردنية تعترض على الانخراط الأردني في المشروع الأميركي لمحاربة الإرهاب، باتهامها بالخيانة وعدم المسؤولية، فهي لا تريد الثأر من «داعش» على جريمتها بقتل الطيار الأردني الكساسبة، أي كلمة حقّ يراد بها باطل.
فالأردن المعني بمحاربة الإرهاب، لا يعقل أن يحارب «داعش» في شرق سورية والعراق وهو يدعم «جبهة النصرة» في جنوب سورية، وانخراط الأردن في المشروع الأميركي للحرب على «داعش»، لا يحقق مصلحة لا للأردن ولا للأمة العربية، بل يحقق المصلحة الأميركية أولاً قبل أي شيء آخر، ومثل هذه المشاركة في الحرب البرية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار فيه.
هناك رغبة أميركية في إضعاف الجيش الأردني، لأهداف لها علاقة بشق الوحدة الوطنية والمجتمعية، تمهيداً لتنفيذ مشروع الوطن البديل الذي يطرحه أقطاب الحكومة الإسرائيلية الحالية من قوى اليمين الصهيوني المتطرف.
على الأردن أن يدرك أنه سيدفع ثمن سياساته الخاطئة غالياً، وخصوصاً إذا ما انخرط في التحالف الأميركي، فهذه التحالفات لم تقم من أجل محاربة الإرهاب، بل من أجل دعمه وتسعير نيرانه في المنطقة، فهناك مشروع سياسي أميركي للمنطقة عنوانه التفتيت والتفكيك وإعادة التركيب على أساس دويلات هشة مذهبية وطائفية، ومحاربة الأردن للإرهاب الحقيقية ومصلحته تكمن في الاصطفاف إلى جانب سورية وجيشها الذي يحارب الإرهاب حقيقة ويدفع ثمن ذلك دماً وتضحيات، كما تتكبد دمشق خسائر كبيرة في اقتصادها وبنيتها التحتية ومقومات وجودها، فلا اجتثاث للإرهاب تحت المظلة الأميركية، تلك المظلة التي تغطي إرهاب الدولة الصهيونية المنظم ضدّ الشعب الفلسطيني.
يبدو أنّ هناك من مشيخات النفط من يريدون توريط الأردن في الحرب البرية، في إطار حقدهم على النظام السوري، النظام الذي وصفهم بعد الحرب العدوانية على حزب الله والمقاومة اللبنانية في تموز2006 بأشباه الرجال، فالذين يقولون للأردن أنّ طريقه إلى «داعش» يمرّ عبر بشار، يريدون أن يأخذوه إلى طريق صعب محفوف بالمخاطر، وقد يدفع الأردن الثمن من وحدته الوطنية واستقراره.
Quds.45 gmail.com