فيلم «ويبلاش» … شراسة العلاقة بين المعلّم الأميركيّ وتلميذه

يقول المعلم للتلميذ في فيلم «ويبلاش»: إذا ارتكبت خطأ واحداً ستكون هنا نهايتك كعازف. يجيبه التلميذ: بلى، فالعازف العظيم غير مسموح له بالخطأ. ويردف المدرب: العظيم لا يرتكب خطأ أصلاً. هذه العبارة هي مفتاح فهم موضوع الفيلم الذي رشح لخمس جوائز في الأوسكار هذا العام، في مفاجأة سعيدة للسينمائيين الشبّان الذين يتطلعون إلى إخراج أفلامهم الأولى، فهو الفيلم الروائي الطويل الثاني لمخرجه الشاب دميان شازيل 30 عاماً ، وهو كاتب السيناريو أيضا.

الفكرة الأساسية للفيلم إذن، تكمن في فكرة تحقيق «العظمة»، أي بلوغ مستوى من المهارة الفنية لا يتوافر سوى للعظماء، وتحديداً في مجال ضبط إيقاعات موسيقى «الجاز» التي هي أساس فيلمنا هذا عنوان الفيلم مستمدّ من اسم مقطوعة مشهورة من موسيقى الجاز . فالبطل الشاب «أندرو» الذي بدأ السنة الأولى في مدرسة للموسيقى في نيويورك، استطاع أن يلفت نظر المدرب الغليظ القاسي الفظ «تيرنس فليتشر»، بمهارته في قرع الطبول، فيمنحه فرصة للارتقاء، قافزاً فوق عازفين أقدم منه وأكثر رسوخا في الفرقة التي تعتبر الأولى في نيويورك. ولا يقبل «فليتشر» في أي حال النزول من هذه المرتبة، مهما كلفه الأمر، ومهما بالغ في تطرفه، فهو يستخدم كل ما يمكن تصوّره من إهانات وشتائم وتهديدات باستخدام أفظع الألفاظ والأوصاف، بل يصل إلى حدّ إلقاء الكراسي في وجوه العازفين، ولا يقبل بارتكاب خطأ واحد، ويطالب «أندرو» بأن يقسو على نفسه ويصل في سرعته أثناء قرع الطبول إلى نحو 300 قرعة في الدقيقة الواحدة، وإذ يعجز أندرو عمليا عن تحقيق ذلك، يقصيه بقسوة من المرتبة التي رفعه إليها، ما يدفع الشاب الذي لا يقبل أن يفشل مثلما فشل والده الطيب في أن يصبح كاتباً، إلى التدرب العنيف حتى تدمى قبضتا يديه.

يتجه الفيلم تدريجياً نحو مبارزة شرسة بين العازف الشاب والمدرب الفظ، ويمكن القول إن موضوع الفيلم وفكرة الصراع الهائل لتحقيق الهدف لا يدوران في فراغ، بل في إطار منافسة شرسة كامنة في طبيعة المجتمع نفسه الذي لا يقبل بأنصاف الموهوبين. كما يشجع منافسات مليئة بالحقد والضغائن والكراهية، وقد تنتهي أيضا نهاية مأسوية، ويصلح المشهد النهائي في الفيلم لأن يكون نموذجاً لتدريس الطلاب في معاهد السينما، لناحية إيقاعه السريع المتدفق الذي يوازي بصرياً إيقاعات الجاز، ثم تلك الإيقاعات الهادرة التي تنطلق سريعة من قرع الطبول، فيتحوّل «أندرو» من شاب مستجيب لتعليمات مدربه التي يحفظها عن ظهر قلب، إلى كائن متّحد مع الموسيقى والإيقاعات ومبدعاً وحده.

ينطلق «أندرو» معبرا عن إحساسه الشخصي بالرغبة في إثبات الذات أمام نفسه أولاً، متفوّقاً حتى على ما يمكن أن يتوقعه منه ذاك المدرب الذي لا يكف حتى في وسط الحفل عن توجيه الشتائم والإهانات إليه، لكنه لا يملك سوى الإقرار ببلوغه العظمة في النهاية ولو بإيماءة بسيطة من وجهه وابتسامة من وجه لا يعرف سوى العبوس والغضب. يرفض «أندرو» التمادي في علاقة عاطفية مع فتاة انجذب إليها، كي لا تعطله عن أداء المهمة المقدّسة التي وهبها نفسه، أي أن يصبح عازفاً عظيماً، كما يتمرّد على رغبة أبيه في توجيه شكوى رسمية ضدّ «فليتشر» الذي أثيرت حوله الكثير من التساؤلات بسبب أسلوبه الفظ في التعامل مع العازفين الشبّان في المدرسة. ثمة علاقة حب وكراهية تربط بين التلميذ والمدرب. يغفر له عنفه وفظاظته إذ يعرف أنه على حق ويرغب في دفع التلميذ إلى بلوغ المستحيل، ولعلّ ما يمارسه من ضغوط شديدة أفاد «أندرو» في تحقيق هدفه. المبارزة بينهما تشبه ما نراه في ميدان الرياضة أو الجيش، بين المدرب واللاعبين، أو بين المدرب والمجندين، ويشبه «فليتشر» الفظ كثيراً أولئك المدربين الذين لا يعرفون حدوداً للقسوة والفظاظة مهما بلغ بهم الأمر، فهو على اقتناع بأن الخشونة هي السبيل إلى تعليم الشاب كيف يقسو على نفسه، وبالتالي أن يتفوّق، لكن ما نراه في الفيلم يبلغ تصويره كحالة مرضية عصابية لا بدّ من أن تكون لها أسبابها التي لا يحللها الفيلم. في مشهد واحد فقط نرى وحدة «فليتشر» وحزنه، إذ يروي قصة العازف الذي انتحر وتدمع عيناه أمام العازفين، لكن قبل أن يستسلم لما بدا عليه من ضعف بشري طبيعي، سرعان ما يستدرك ويستأنف التدريب. «فمن الجيد أن يعمل المرء» يقول مغالباً مشاعره. وبعيداً عن هذا المشهد لا يقدّم الفيلم أيّ تفسير أبعد من التفسير الأوّلي لجموح «فليتشر» وتطرّفه، الذي قد يعكس تعويضاً نفسياً عن فشل ما أو إحساس ما بالعجز في جوانب أخرى من حياته.

فيلم «ويبلاش» حول شخصيتين أساسيتين، وبالتالي أنتج السيناريو عملاً متماسكاً لا ينحرف عن مساره في دروب فرعية، ويثري موضوع «المبارزة» وفكرة التنافس، مع منح الممثلين مساحة للإبداع إلى أعلى مستوى. ومثلما هناك مبارزة داخل الفيلم بين المدرب والتلميذ، ثمة أيضاً مبارزة على صعيد التمثيل بين الممثل العملاق ج.ك. سيمونز في دور «فليتشر»، والممثل الشاب ميلز تيلر في دور «أندرو». ويحرص المخرج دميان على إبقاء الموسيقى في نطاق محكم، رغم وجودها المحسوس في الفيلم، إلاّ أنه يصل بها إلى الذروة في مشهد النهاية، ذروة الفيلم الدرامية بلا شك. كما يستخدم اللقطات القريبة لدى تصوير وجوه العازفين والآلات التي يعزفون عليها، ويستخدم حركات الكاميرا العصبية في الانتقال بين المدرب والعازفين، ويجعل «فليتشر» يمدّ قبضة يده للقبض الهواء بعنف، كي يدلّ على عدم رضاه عن الإيقاع. كما يلجأ إلى الكاميرا المحمولة الحرة أحياناً، خاصة بعد إصابة «أندرو» في حادثة السيارة وإصراره على السير لبلوغ المسرح واللحاق بالعرض الموسيقي في اللحظة الأخيرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى