طرابلس 2015… إلى أين؟
عبدالله خالد
أكدت طرابلس عبر تاريخها أنها منارة وطنية وقومية يتمسك أبناؤها بالمبادئ والقيم التي انتقلت إليهم من الأجداد والآباء ونقلوها بدورهم إلى الأبناء والأحفاد.
ففي عهد الخلافة العثمانية كانت إلى جانب دمشق وحلب- درة بلاد الشام. وفي عهد الانتداب الفرنسي بدأ تنفيذ خطة تهميش دور طرابلس ومحاربة مرافقها الأساسية وتضييق الخناق على الصناعات والحرف فيها بعد أن تمسكت بالوحدة السورية ورفضت الانضمام إلى دولة لبنان الكبير، التي أعلنها غورو، الذي شجع قيام طبقة سياسية فاسدة وكرّس الطائفية كمدخل لا بدّ منه لاستمرار الشرذمة بين أبناء الوطن والأمة الواحدة.
استمرت تلك السياسة في عهود الاستقلال المختلفة. وكان من البديهي أن يتمسك أبناء طرابلس بثوابتهم الوطنية والقومية وأن تتشدّد الطبقة السياسية في تطبيق سياسة التغييب والتهميش والإلغاء لطرابلس كموقع ودور ووظيفة في محاولة لترويض أبنائها وإجبارهم على البحث عن لقمة العيش وعدم الاهتمام بالقضايا الوطنية والقومية بعد أن وقعوا في فخ الفقر وتمّ تأجيج الغريزة الطائفية لمنع الاهتمام بالملف الاقتصادي الاجتماعي.
لقد رفض المؤمنون بالقضايا الوطنية والقومية والعاملون على تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية الاستسلام، وتحوّلت طرابلس إلى منارة للفكر القومي والوطني وقاعدة متقدمة للنضال المطلبي وتاريخها يشهد على ذلك مبايعة عبد الناصر، مواجهة حلف بغداد ومشروع أيزنهاور، تأييد الوحدة السورية – المصرية، دعم ثورة الجزائر وحركات التحرّر الوطني، دعم المقاومة الفلسطينية، التمسك بالمقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان… .
وكانت قوى الردّة التي انتعشت بعد الانفصال الأسود وهزيمة حزيران 1967 قد نزعت القناع عن وجهها وأظهرت حقيقة ارتباطها بالرجعية العربية المناهضة للفكر الوطني والقومي الوحدوي وتبعيتها للمشروع الغربي. وجاءت الحرب الأهلية في نهاية عام 1975 لتعيد إنتاج الفكر الانعزالي وتكرّس التناقضات الطائفية وتبرز الصورة البشعة للطبقة السياسية الفاسدة وتغيّب البعد الوطني والقومي ولتغرق المقاومة الفلسطينية في وحول النزاعات الداخلية اللبنانية ببعدها الطائفي بحيث استعاد البعض أحداث 1840- 1860 وسعى إلى استكمالها.
والأمر المؤسف أنّ أغلب الأحزاب الوطنية والقومية والتقدمية أضاعت البوصلة وتحوّلت إلى ميليشيات أفقدتها دورها ووظيفتها وجعلتها تترهّل وتفقد فعاليتها. وإذا كان هذا الوضع قد شمل كلّ المناطق إلا أنه كان أكثر وضوحاً في طرابلس خلال حرب السنتين والصراع الفلسطيني – الفلسطيني الذي تحوّل إلى صراع لبناني- فلسطيني وتمدّد ليصبح لبنانياً صرفاً وليضع اللبنة الأولى لأحداث التبانة بعل محسن.
وقد شهدت طرابلس في تلك المرحلة أكثر من حدث كمحاولة تصفية بعض الأحزاب وإخراج بعضها الآخر من المدينة وتحريرها. وبرزت ظاهرة تعدّد وتنوّع الحركات الإسلامية التي ترافقت مع مساع جادّة لتفكيك المدينة وشرذمتها عبر إغراقها بصراعات دائمة. وجاء اتفاق الطائف ليحمل معه الأمل بإمكانية ولادة لبنان جديد. إلا أنه سرعان ما تبخر بعد أن تبيّن أنّ الطائف نجح في وقف الحرب ولكنه لم ينجح في إحداث تغيير جدّي في الأمور الأساسية باستثناء المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب، على الرغم من الوعود الكثيرة التي تضمّنها الاتفاق على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال. ورغم أنّ أكثر من ربع قرن قد مرّ على ذلك الاتفاق فإنّ الوضع ما زال كما هو، بل إنّ الوضع ازداد سوءاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي شكل بداية لمشروع يرمي إلى تفكيك المنطقة وإعادة تشكيلها من جديد على أساس طائفي- مذهبي خدمة للكيان الصهيوني.
وكانت المقاومة قد نجحت في تحرير الجنوب من رجس الاحتلال الصهيوني في 25 أيار 2000 وحطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وخرافة التفوّق الصهيوني وأجبرت الحلف الأميركي الصهيوني على بدء عدوان جديد في 12 تموز 2006 فشل في كسر إرادة المقاومة التي حققت نصراً تاريخياً جعل العدو الإمبريالي- الصهيوني يلجأ مجدّداً إلى استخدام السلاح الأخير الذي يملكه وهو تأجيج الغرائز واستثارة التناقض المذهبي… وهكذا بدأ «الربيع العربي» الذي ركبت موجته التيارات الأصولية المدعومة من الغرب بقيادة الولايات المتحدة والرجعية العربية وتركيا والكيان الصهيوني.
صفقة أميركا ـ «الإخوان»
مع بدء أحداث «الربيع العربي» التي شملت تونس ومصر وليبيا واليمن، والتي حرفت منذ أيامها الأولى عن أهدافها الأساسية في الخبز والحرية والكرامة والديمقراطية ومواجهة الاستبداد، بعد أن ركبت موجتها التيارات الأصولية وفي مقدمتها «القاعدة» و«الإخوان المسلمين» الذين عقدوا صفقة مع الإدارة الأميركية تؤدّي إلى تسلمّهم الحكم مقابل عدم الاعتراض على المشروع الصهيوني في المنطقة.
ومع استمرار سورية في خطها السياسي الرامي إلى إفشال المخطط الأميركي- الصهيوني ودعم حركات المقاومة وتعزيز محورها الممتدّ من طهران إلى بغداد ودمشق ولبنان وفلسطين والذي تشكل سورية عموده الفقري، وجدت واشنطن أنه لا بدّ من تدمير سورية الدولة لما تجسّده من موقع ودور ووظيفة كمدخل لا بدّ منه لتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وكلفت التيارات الأصولية وفي مقدّمتها جماعة «الإخوان المسلمين» التي تريد الثأر وتعويض ما حلّ بها في ثمانينيات القرن الماضي.
وتعاطفت التيارت الأصولية اللبنانية، وتحديداً تلك المتواجدة في طرابلس وبقية مناطق الشمال، مع ما أسمته «الثورة السورية» وأمدّتها بالرجال وتطوّعت لتهريب الأسلحة والمال وغيرها من المساعدات وسعت إلى تكوين بيئة حاضنة لها في الشمال وعاصمته طرابلس. وانتقل المئات من المسلحين إلى القصيْر وحمص وتلكلخ وقلعة الحصن وسقط منهم قتلى وجرحى. وكان المخطط قبل سقوط باب عمرو والقصيْر يرمي إلى إعلان إمارة إسلامية تمتدّ من القصيْر إلى طرابلس. وترافق ذلك مع تجدّد جولات القتال بين التبانة وبعل محسن بهدف تأجيج الغرائز وتكريس التناقض المذهبي. وحين فشلت تلك التيارات في إسقاط النظام في سورية كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن- شنّت حرباً كونية ضدّ النظام شاركت فيها أكثر من 83 دولة، واستُقدم آلاف المسلحين الأجانب بعد فتح الحدود التركية والأردنية واللبنانية ليشكلوا أكثر من 80 بالمئة من القوى التي تناهض النظام. وظهرت منظمات تحمل أسماء متعدّدة وإنْ كان يجمعها فكر أصولي وهابي تكفيري تقوده الإدارة الأميركية عبر تركيا وقطر وغيرها، وتموّله الرجعية العربية بأنظمتها المتعدّدة وفي طليعتها النظام السعودي.
ولكن كلّ تلك الحرب الكونية لم تستطع أن تسقط النظام، بل إن ردّ فعل عكسياً جعل بعض من ضلوا الطريق أو غرّر بهم يعودون إلى رشدهم، بعد أن اكتشفوا أنهم همّشوا من قبل الغزاة الجدد وفقدوا أبسط مقوّمات العيش التي كانوا يتمتعون بها ووجدوا أنّ سورية تدمّر بشكل منهجي لتفقد كلّ مقومات الدولة من مصادر ثروة ومقومات سيادة واستقلال وتخدم الاحتلال الصهيوني والمشروع الأميركي في المنطقة.
تكرار مشهد «الأفغان العرب»
ومع سقوط مشروع التخلص من الرئيس بشار الأسد وبدء استعادة الدولة لمناطق هامة في حمص والقصيْر والقلمون وسقوط الكثير من المسلحين ومنهم من أبناء طرابلس والشمال، وعودة البعض منهم إلى ديارهم، تكرّر المشهد الذي رأيناه في أفغانستان حين عاد «الأفغان العرب» إلى ديارهم وهم يحملون فكراً تكفيرياً يرفض الآخر ولا يقبل التعايش معه ويصدر الفتاوى التي تجيز قتله. وبدأ الحديث عن إمارة طرابلس التي تشكل جزءاً من دولة الخلافة التي أعلنها البغدادي والتي ينافسه فيها الجولاني. وتحرك المسلحون بعد أن بايع بعضهم البغدادي وجاهر بعضهم الآخر بعلاقته بـ«جبهة النصرة» على ثلاثة أصعدة:
1 ـ العمل على إبقاء التوتر في طرابلس عبر استهداف أبناء بعل محسن ومنعهم من دخول طرابلس ومحاصرتهم في أماكن تواجدهم ونسف ممتلكاتهم خارج البعل.
2 ـ تطهير بعض المناطق من بعض المشكوك في ولائهم واعتبارها مناطق محرّرة، ومنع الجيش والقوى الأمنية من دخولها وفرض قوانينهم الخاصة عليها.
3 ـ مهاجمة أماكن تواجد الجيش في طرابلس في محاولة لإخراجه من المدينة كمقدمة لإخراجه من الشمال، والعمل على فتح الحدود مع سورية على غرار ما حصل على الحدود السورية – العراقية.
لقد أدّى ذلك الوضع إلى تقليص مساحة الدعم للمسلحين في أماكن تواجدهم من قبل المواطنين الذين شكلوا في فترة ما مشروع حاضنة شعبية، وإلى إعلانهم الولاء للدولة ودعمهم للجيش والقوى الأمنية ومطالبتهم بإنهاء تواجدهم في المناطق التي تمركزوا فيها عنوة. وفي ظلّ الواقع الجديد بدأ تنفيذ خطة أمنية جديدة سعى المسلحون وبعض المستفيدين منهم إلى إعاقتها وعرقلتها من دون جدوى. وحين سعى البعض إلى إجهاض الخطة الأمنية بالقوة، كان الجيش بالمرصاد لإعادة الأمن إلى ربوع طرابلس ودفع ثمن ذلك المزيد من الشهداء والجرحى. أما المسلحون فقد توزعوا بين قتيل وجريح ومعتقل وفارّ.
فرض نجاح الخطة الأمنية نوعاً من الاستقرار الأمني الذي انعكس بشكل إيجابي على حركة الأسواق بعد أن اختفى المسلحون ولم يعد هناك أيّ منطقة خارج سيطرة الجيش والقوى الأمنية، وإنْ كان هذا لا يعني أنّ الأمور قد عادت إلى طبيعتها السابقة بدليل أنّ بعض المتفجرات ما زالت تلقى بين حين وآخر في أماكن التوتر السابقة، كما أنّ بعض المظاهر المسلحة تظهر ليلاً في الأسواق الداخلية للمدينة بفضل التواصل المستمرّ بين المعتقلين من المسلحين وعائلاتهم. ويبدو أنّ بعض الخلايا النائمة ما زالت متواجدة في أكثر من منطقة في طرابلس وأنّ اتصالاتها ما زالت مستمرة مع مسلحي جرود عرسال والقلمون والمتواجدين في مخيم عين الحلوة والمعتقلين في سجن رومية. كما أنّ جواً من الشائعات التي تحرّض على الفتنة المذهبية وتنال من سمعة المقاومة وتسعى إلى ضرب هيبة الجيش والقوى الأمنية ما زال منتشراً في المدينة، وتحديداً في المناطق التي يسودها الفقر والجهل والتخلف.
غياب الرئيس كرامي وتفجير جبل محسن…
في ظلّ هذا المناخ الذي يثير القلق ولا يبعث على التفاؤل انتهى العام ليبدأ السؤال عن مستقبل طرابلس خصوصاً بعد أن شهدت بداية العام الجديد وفاة الرئيس عمر كرامي، والتفجير الإرهابي في بعل محسن. فقد أحدثت وفاة الرئيس كرامي صدمة لأبناء طرابلس الذين شعروا بالذنب وافتقدوا بغيابه زعيماً وطنياً لم تستطع القيادات الأخرى أن تأخذ مكانه، ولذلك فإنّ الحشود الشعبية التي شاركت في التشييع والتعزية كانت تؤكد تمسكها بالمبادئ والقيم التي حمل الرئيس كرامي رايتها وتعاهده على متابعة نهجه مهما غلت التضحيات.
أما الجريمة التي ارتكبها التكفيريون في بعل محسن والتي ذهب ضحيتها شهداء وجرحى وكان يُراد منها أن تعيد جولات القتال العبثي بمضمونه المذهبي فقد أدّت إلى نتائج عكسية أجهضت مخطط تفجير الوضع الأمني مجدّداً وأظهرت أقصى حدّ من التضامن بين أبناء المنطقة الواحدة أعاد إلى الأذهان جوّ الوئام الذي ساد طرابلس حين كان أبناؤها يشكلون عائلة واحدة. لقد أظهرت طرابلس من خلال هذين الحدثين أنها ما زالت وفية لما زرعه الأجداد والآباء، وأنها في الملمات تستطيع أن تميّز بين الغث والثمين وبين الحقيقي والمزيّف، وأنّ كلّ ما حدث نتيجة الشحن الطائفي والمذهبي والتوتر الأمني المفتعل هو أشبه ما يكون بغيمة عابرة لا تستطيع أن تغيّر لون السماء أو قشرة رقيقة لا يمكن أن تتجذّر في الأرض، وهذا ما كان من أبناء طرابلس خلال عدوان تموز.
إنّ السؤال الذي يفرض نفسه بعد أن تكرّس هذا التحوّل من خلال هذين المشهدين هو التالي: كيف نستفيد منه لنبني خطة مستقبلية بدلاً من أن يكون الموقف الشعبي مجرّد حدث عابر سرعان ما يتراجع تحت وطأة التحريض بحيث يصبح مصيره كالسيل الجارف الذي ينتهي في البحر دون أن نستفيد منه؟ أخشى أن تكون الإجابة سلبية لأنّ الوضع معقد يتداخل فيه المحلي مع العربي والإقليمي والدولي ويتصادم السياسي مع الاقتصادي- الاجتماعي والطائفي المذهبي، ويتمّ في مناخ تراجع فيه دور الأحزاب وشرذمة قوى المجتمع المدني وسطوة المال السياسي وهيمنة الفكر الديني التكفيري وتقدّم الولاء الهامشي والفرعي على الولاء الوطني والقومي وتحالف الرجعية العربية مع العدو الصهيوني في مواجهة الفكر القومي المقاوم، وغياب الملف الاقتصادي- الاجتماعي، وعدم الاهتمام بقيمة الوعي الفكري والثقافي… وهذا ما يطرح سؤالاً جديداً ما هو العمل إذن؟
تجاهل وإهمال وحرمان…
شهدت طرابلس الكثير من التجاهل والإهمال والحرمان. وعاشت في كنف التفاوت المناطقي والاقتصادي والاجتماعي والتركيز على العاصمة بيروت وجبل لبنان وإهمال المناطق الأخرى الأطراف . وعرفت التمييز في المواطنة على أساس طائفي- مذهبي والتغييب والتهميش والشطب من الخريطة الاقتصادية والتنموية والسياحية من قبل النظام الطائفي الذي أنتج طبقة سياسية فاسدة منعت التفكير بإمكانية تبني أيّ إصلاح أو تطوير أو تغيير يؤدّي إلى نوع من العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. وغرقت في أتون انقسامات وانشقاقات كانت تتمّ بشكل دوري نتيجة عدم التوافق على قواسم مشتركة تحدّد الهوية الوطنية والانتماء القومي. وراقبت تحوّلها إلى ساحة للصراع وصندوق بريد لتبادل الرسائل المحلية والوطنية والعربية والإقليمية والدولية. وقد أدّى هذا التشابك إلى وضع معقد ترافق مع انهيار اقتصادي رتب أعباء معيشية صعبة للفقراء بالإضافة إلى شريحة كبيرة من المواطنين لاستمرار التوتر الأمني فيها بعد تحوّلها إلى ساحة صدام مسلح بين الأطراف المتنازعة فيها. ورغم البعد الإنساني للنازحين السوريين الذين تشدّنا إليهم روابط القربى والجوار والمصالح المشتركة، إلا أنه لا بدّ من الاعتراف بأنّ تكاثر أعدادهم فاق قدرة المدينة على استيعابهم، الأمر الذي فاقم الأزمة الاقتصادية خصوصاً بعد تصاعد نسبة البطالة وتراجع التقديمات الاجتماعية والصحية والتربوية. وتوّج كلّ ذلك بجولات القتال العشرين وما تخللها من خطط أمنية تم الالتفاف عليها، ومصالحات فوقية ووهمية لذرّ الرماد في العيون وعدم معالجة المشكلة من جذورها. ودخل عامل جديد على المشهد الطرابلسي حين بدأ المسلحون بمهاجمة حواجز الجيش وقتل ضباطه وجنوده الأمر الذي فرض وضع خطة أمنية جديدة أخذت طريقها إلى التنفيذ بعد أن صدر القرار السياسي الذي كان غيابه يعيق تنفيذها. وحوصر المسلحون بعد أن أكد أبناء طرابلس الأوفياء ولاءهم للدولة ورفضهم للمسلحين وإصرارهم على عدم تشكيل بيئة حاضنة لهم والتفافهم حول الجيش والقوى الأمنية ودعمهم لإجراءاتهم. ومع نجاح الخطة الأمنية بعد زوال الأسباب التي كانت تعيق تنفيذها. وقد نجحت الخطة الأمنية وزالت هيمنة المسلحين على المدينة – الذين توزعوا بين قتيل وجريح ومعتقل وهارب ومتوار ومستنكف – وأزالت معها أحلام الإمارة وأوهام الاستقلال والحكم الذاتي. وعلى الرغم من أهمية الخطة الأمنية ودورها في استعادة الأمن والاستقرار إلا أنها لا تكفي لوحدها في إعادة الأمور إلى طبيعتها لأنّ ما حصل تمّ على امتداد سنوات ونتيجة مجموعة مركبة من العوامل بعضها سياسي وبعضها إقتصادي – اجتماعي وبعضها استراتيجي – أمني فرضته روابط التاريخ والجغرافيا التي طبعت أبناء المدينة بخصوصية تجسّدت في كونها مدينة العلم والعلماء والإيمان المتمسكة بثوابت وطنية وقومية كرّست دورها كصلة وصل بين العالم والداخل العربي والإسلامي.
هذا يعني أنه يجب استكمال العامل الأمني بمجموعة من الخطوات على أكثر من صعيد والغوص في الأعماق لتلمّس جذور المعضلات التي أدّت إلى الوضع المأساوي الذي عانت وما زالت تعاني منه.
إنّ إيجاد الحلّ لأيّ معضلة يتطلب معرفة الأسباب ومعالجتها لتنتفي إمكانية حصولها وإيجاد الضوابط التي تمنع تكرارها. كما أنّ المعالجة تنطلق من قرار سياسي تأخذه الدولة بعد التشاور مع هيئات ومؤسسات المجتمع، ووفق خطة شاملة تتضمّن ما هو فوري ومتوسط وطويل المدى. وتتطلب الخطوة الأولى تثبيت الوضع الأمني والحيلولة دون تفجّره مجدّداً والتشدّد في تطبيق القوانين وعدم استخدام معايير مزدوجة ومتابعة ملاحقة المتورّطين وعدم التعامل مع عائلاتهم كمتهمين والتساهل مع الذين لم يتورّطوا في أعمال عنف، ووضع الضوابط التي تؤدّي إلى قطع الصلة مع مصادر الإرهاب وتجفيف منابعه، والإسراع في تطبيق الإنماء المتوازن والإفراج عن الأموال التي رُصدت لتنفيذ مشاريع تسهم في تنمية المدينة وتقليص نسبة البطالة فيها، خصوصاً وأنه لا يوجد من يعرف مصير الـ100 مليون دولار التي رُصدت لمشاريع طرابلس وتحديداً منطقه باب التبانة التي حوّلها الإهمال وتزايد نسبة البطالة والفقر إلى خزان للمسلحين ومشروع حاضنة شعبية لهم.
نزع فتيل الفتنة وتحقيق المصالحة
إنّ أول عمل يفترض القيام به في طرابلس هو نزع فتيل الفتنة وتحقيق المصالحة بين أبناء المدينة الواحدة في التبانة وبعل محسن بعد أن حاول أكثر من طرف أن يبقي التناقض بينهم. ولعل الاستقبال الذي حظي به أبناء التبانة في البعل حين اضطروا إلى ترك منازلهم نتيجة الصدام بين الجيش والمسلحين، وتضامن أبناء التبانة مع أهالي البعل في المحنة التي أصابتهم نتيجة تفجير الانتحاريين الأخير خير دليل على رفض الجانبين الانجرار إلى الفتنة، خصوصاً أنّ المسلحين الغرباء الذين ينفذون مخططاً أجنبياً يقفون وراء افتعال الأحداث الدامية لضمان استمرار الفتنة وتسعير التناقض المذهي. وعلينا أن نتذكر أنّ منطقة التبانة – بعل محسن هي الأكثر فقراً في طرابلس وتاريخها يشير إلى أنّ أبناءها نتيجة فقرهم الذي تجاوز الخطوط الحمر انخرطوا في الحركات الحزبية والمطلبية وشكلوا طليعة متقدّمة لها تريد أن تسهم بتضامنها في إنجاز التغيير المطلوب الذي يهدّد مصالح الطبقة المهيمنة والمتحكمة بالمفاصل الاقتصادية في المدينة. ومن هذا المنطلق عملت تلك الطبقة على توفير المناخ لتكريس الشرذمة في صفوف الكادحين لحماية تلك المصالح من خلال تأجيج الغرائز وتعميق الانقسامات ليغرق الجميع في وحولها بعد أن تجاهلوا من استغلهم وتسبّب في استمرار فقرهم.
بهذه الخلفية يمكن تفهّم أسباب استمرار التوتر الأمني وتصاعد وتيرته انطلاقاً من أنّ البعض كان يعتقد أنّ مصلحته تتطلب ذلك. ولذلك فإنّ المعالجة كانت غالباً سطحية أو فوقية أو تسير باتجاه خاطئ بحيث لا تصل إلى من يهمّهم إنهاء التوتر. وهذا يعني أنّ تحقيق المصالحة وإنهاء الفتنة يجب أن يحظى بأولوية قصوى لإنقاذ طرابلس من المحنة التي أصابتها والتي أدّت إلى تراجعها في كلّ الميادين. وأن تكون جدية يتولاها المهتمون بإعادتها إلى طبيعتها وإزالة كلّ العقبات التي تعترضها والتي لا يجب الاستهانة بها لأنها كثيرة ومعقدة ويصعب تجاوزها بسهولة وتحتاج إلى جهد جماعي للوصول إلى برّ الأمان تشارك فيه الدولة وهيئات ومؤسسات المجتمع المدني وتجد فيه الأطراف المعنية بالمصالحة خلاصها. وأن تتكامل تلك الجهود للوصول إلى الغاية المنشودة بحيث تقوم الدولة بدورها كاملاً، وتأخذ القرار السياسي الرامي إلى توفير الأمن وتحقيق العدالة وتطبيق ما تضمّنه اتفاق الطائف على صعيد إقرار الإنماء المتوازن الذي يوفر القاعدة المادية لتحقيق التنمية في كلّ المناطق، وهي التي حصرت المشاريع بالعاصمة وبعض الجبل، والتركيز على إقرار اللامركزية الإدارية وإلغاء الطائفية السياسية وتثبيت المواطنة كبديل للولاءات الهامشية حفاظاً على الوحدة الوطنية وتثبيتاً للسلم الأهلي.
أما الهيئات ومؤسسات المجتمع المدني فإنه يفترض بها أن تتمرّد على واقعها المأساوي المتجسّد في شرذمتها وتعدّد ولاءاتها لتتمكن من القيام بواجبها وتأدية دورها في مساعدة الدولة على النجاح في مهمتها عبر تنشيط مرافق طرابلس ومصالحة أبنائها كمقدمة لاستعادة دورها وتأدية وظيفتها وتعزيز موقعها.
أما أبناء طرابلس وفي مقدّمتهم أولئك الذين عاشوا في مناطق التوتر والصدام فإنه يفترض بهم أن يتخلصوا من كلّ أشكال الوصاية التي مورست عليهم وأبقتهم أسرى مخططات خارجية لا علاقة لهم بها ووقعوا في شباكها بعد أن عانوا من البطالة والفقر وفرض عليهم الجهل والتخلف أن يكونوا مجرّد أدوات في «لعبة الأمم» التي احترفها المسلحون التكفيريون الذين صنعهم الغرب وأمدّهم بالسلاح الذي دفع ثمنه النظام العربي الرسمي الذي ارتضى أن يكون مجرّد أداة في خدمة المشروع الأميركي ـ الصهيوني.
لا بديل عن الدولة
كما أنّ هذا الوضع أفقدهم القدرة على الخروج عن طاعة المسلحين الذين هيمنوا على مناطقهم وفرضوا عليهم الخروج عن طاعة الدولة والخضوع لقادة المحاور الذين يفرضون قانونهم كبديل لقانون الدولة التي استبيحت. ومع الوضع المزري الذي وصل إليه أبناء طرابلس اكتشفوا أنّ لا بديل عن الدولة والالتفاف حول الجيش والقوى الأمنية لتخليصهم من المسلحين والعودة إلى فرض هيبة الدولة وسيادتها على الجميع. وبالتالي فإنه بمقدار ما يتبنى أبناء طرابلس هذا الخيار بمقدار ما ينهوا ظاهرة التشبيح التي تنامت في ظلّ هيمنة المسلحين ووصلت إلى حدّ العمل على تفكيك وحدة الدولة وتحويلها إلى إمارات ودويلات وكيانات لا تملك مقومات الاستمرار، وخصوصاً بعد أن أصبح همّها القضاء على الجيش الذي يحمي الوطن، وعدم الاعتراف بالآخر، وتكريس التناقض الطائفي والمذهبي. ويتوّج كلّ هذا بتشكيل قوة شعبية ضاغطة من القوى الحية في المجتمع الطرابلسي تكون مهمّتها التأكيد على المطالب الحيوية لطرابلس لتتمكن من استعادة دورها القيادي كعاصمة للشمال ومكانتها كعاصمة ثانية في لبنان ووظيفتها كمدينة مركزية على البحر الأبيض المتوسط. وتحريض هيئات ومؤسسات المجتمع المدني للقيام بدورها الفاعل في المجتمع والتواصل مع قيادات المدينة الفاعلة للقيام بواجبها في الضغط على الحكومة لإجبارها على الإفراج عن المشاريع الحيوية التي تنعش طرابلس ونفض الغبار عنها بعد أن مرّت عليها سنوات طويلة وهي مركونة في الأدراج.
إنّ نجاح قوة الضغط الشعبية يفترض وضع خطة نوعية طموحة تحدّد المطالب الملحة لطرابلس وتضع الإطار العملي لتنفيذها وتقودها عناصر تتمتع بالكفاءة وتؤمن بالعمل الجماعي، الذي لا يكتفي بالإشارة إلى العلة، بل تعمل على إيجاد العلاج لها وتضغط لمتابعة تنفيذه بشكل يحقق المصلحة العامة وليس مصلحة فئة قليلة في مؤشر على أنّ مرحلة جديدة من العمل الجادّ بدأت تحت شعار الدفاع عن حقوق طرابلس والضغط لوضعها موضع التنفيذ وترتفع بعملها فوق كلّ التيارات، وتعمل على إنضاج عملية إقرار المشاريع الحيوية التنموية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية.
الاعتراف بالمسؤولية
والمدخل إلى نجاح تلك الخطة يتطلب أن نعترف بمسؤولية أبناء طرابلس عن حالة التردّي التي أصابت مدينتهم نتيجة انسحاب شريحة كبيرة منهم من العمل في الحقل العام تاركين الساحة الطرابلسية لأشخاص يتمتعون بنفس المواصفات ويختلفون بالنسبة وليس بالنوع. والأمر المؤسف أنّ من انسحب من العمل العام استسهل الحياة وآثر الانخراط في لعبة الاقتصاد الريعي مكتفياً بالفائدة التي يحصل عليها بدلاً من المشاركة في مشاريع اقتصادية منتجة، فأقفلت المعامل والمصانع ولم تنشأ مشاريع اقتصادية جديدة. وهكذا تكرّس الجمود الاقتصادي في طرابلس. إذا أضفنا إلى ذلك الانقسام والشرذمة داخل المجتمع المدني والتراجع والشلل في العمل الحزبي نتيجة أخطاء وخطايا وقعوا فيها بعد أن انخرط بعضهم في العمل الميليشيوي بدلاً من أن يقدموا أنفسهم كطليعة متقدمة لهذه الأمة، أمكننا أن ندرك كيف تركت الساحة خالية للحركات الإسلامية التي ارتكبت خطيئتها المميتة حين مزجت الدين بالتعصّب وغيّبت مساحة المحبة والتسامح التي تميّز بها الدين الإسلامي الحنيف. وبذلك ارتبطت في أذهان الناس صورة ظلامية عن طرابلس ساعد على تكريسها بعض التصرفات غير المسؤولة للمسلحين الذين شوّهوا تاريخ طرابلس وما تميّزت به من انفتاح واعتدال وتسامح.
لحراك شعبي نوعي
علينا أن نعترف بأنّ الساحة الطرابلسية بحاجة إلى حراك شعبي نوعي ينقذها من حالة اللاتوازن والفراغ التي تعيشها ويبدأ بتحصين الساحة الداخلية لمنع قوى مشبوهة من التسلل إلى المدينة لملء الفراغ الذي لا ينتظر المتأخرين عن القيام بواجبهم. لذلك لا بدّ من مراجعة نقدية تقوم بها القوى الحية في طرابلس وفي مقدّمتها الأحزاب الوطنية والقومية والتقدمية وهيئات ومؤسسات المجتمع المدني لتستخلص الدروس والعبر مما جرى بحيث تتخلص من الأخطاء والخطايا التي وقعت في السابق وتركز على الإيجابيات لتعزيزها وتطويرها. وعلينا أن نعترف بأنّ سياسة التجاهل والإهمال والحرمان التي مورست ضدّ طرابلس هي سياسة مدروسة ومرسومة بدقة لمعاقبة أبنائها على مواقفهم المبدئية الوطنية والقومية ولأنها تملك من المقومات والإمكانات الذاتية والموضوعية ما يؤهّلها لأن تحتلّ مركز الصدارة وأن تشارك بفعالية في عملية البناء خصوصاً أنها مؤهلة ليس للمشاركة في عملية البناء فقط وإنما في قيادتها أيضاً في إطار خطة وطنية شاملة تنطلق من إعادة وضع طرابلس على الخريطة الاقتصادية التنموية، وتتعزز بإرادة ذاتية جماعية طرابلسية تنهي الخلافات الهامشية وتقدم مصلحة طرابلس وتشجع على الاستفادة من المحيط العربي الذي يشكل الرئة الطبيعية لطرابلس وباقي المناطق اللبنانية، خصوصاً أنّ طرابلس تنظر إلى دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها من العواصم العربية نظرتها إلى العاصمة بيروت بعد أن كانت عبر تاريخها المقرّ الذي يربط العالم بمحيطها العربي والإسلامي عبر سورية ويعيد إنعاشها وإنعاش كل المناطق اللبنانية.