نحوّل حياتنا برمّتها عملاً فنّياً بحسب نيتشه
جورج كعدي
كان أمراً مثيراً على الدوام ألاّ تتضمّن لغة الفيلسوف الناريّ فريدريك نيتشه ومفرداته مصطلح «العبقريّة»، علماً أنه انشغل طوال حياته بالمفكّرين والفنّانين العباقرة، بدءاً بكبير الفلاسفة شوبنهاور الذي اعتبره نيتشه معلّماً، بلوغاً إلى الموسيقيّ العملاق فاغنر الذي عشق نيتشه أعماله قبل أن ينقلب ضدّه ويناصبه العداء المرير. ويتوقّع المرء أن ترد كلمة «العبقريّة» في كتابات نيتشه على نحو متكرّر. لكنّ المرجّح أنّ للأمر صلة بسيرة نيتشه الذاتيّة من ناحية، وبالمفاهيم والتصوّرات لديه من ناحية ثانية.
مهما قيل عن فاغنر، ليس ممكناً لمن كرّس نفسه لهجاء المعتقدات التقليديّة في غلوّ وإسراف مثل نيتشه، أن ينكر عليه لقب عبقريّ، فهو نموذج للعبقريّة مثل ميكيلانجلو وبيتهوفن. كان فاغنر العبقريّ الوحيد الذي عرفه نيتشه أو التقاه، بل كان بالنسبة إليه الأعظم على الإطلاق. واستبدّت الحيرة بفاغنر حول الدوافع التي دفعت نيتشه إلى صبّ هجومه عليه. المسألة من وجهة نظر نيتشه تُختزل في أنّ فاغنر هُزم على جبهتين في آن واحد، فبعدما كان مقاتلاً طوال حياته بات مهادناً في حياته العامّة وحياته الخاصّة على السواء، ففي العامة أضحى مؤيّداً للرايخ الدولة الألمانيّة الموحّدة ومن المعجبين ببسمارك، و«رجعيّاً معادياً للساميّة». وفي حياته الخاصّة حوّل نفسه على نحو لا يطاق إلى ربّ أسرة مسيحيّ. لم يكن في تصوّر نيتشه أنّ العمل الفنّي الجميل لا يصدر إلاّ عن نفس جميلة، ولم يكفّ عن اعتبار الفنّ نموذجاً أوّل للنشاط الإنسانيّ الجدير بالاهتمام، بسبب ذاك النوع من الشمول الذي يمكن أن تنطوي عليه الأعمال الفنّية، رادماً الفجوة الواسعة بين الفنّ والفنّان، مردّداً بإصرار ثم بحدّة أننا ينبغي أن نصبح أعمالاً فنّية!
في وصف نيتشه للمثل العليا تقليل من شأنها على نحو خطير، حتى أننا نتساءل عن صورة الإنسان الأعلى لو التقيناه، وعمّا إذا كان نيتشه نفسه لا يملك سوى الأفكار الأشدّ غموضاً عنه. الصيغتان المشهورتان له عن «سقراط الذي يعزف الموسيقى» و«القيصر ذو قلب المسيح» تجمعان بين متناقضين، إذ يصف نيتشه سقراط في كتابه «ولادة التراجيديا» بأنّه لم يعزف الموسيقى لأنّه لم يستطع ذلك، والقيصر بانّه ما كان ليستطيع البتّة خوض حملاته الناجحة لو كان يحمل قلب المسيح. ولعلّ نيتشه بتقديمه هاتين الصيغتين الصاخبتين المثيرتين كان يحاول تقديم وصف لعمل لم يولد بعد يسعنا التعرّف إليه حين يتمّ إبداعه.
إنّ معضلة التحقّق مما ينبغي أن ينجزه الإنسان لصوغ حياته أو صوغ نفسه في عمل فنّي ستبقى معضلة كبيرة. لعلّ الصعوبة الأكبر هي في عدم قدرتنا على فعل شيء لتغيير ماضينا، بينما يستطيع الفنّان الاستمرار في مواجهة عمله حتّى يرضى عنه فيقدّمه إلى الناس كلاًّ متكاملاً. بالنسبة إلى نيتشه، يجب أن نحوّل حياتنا برمّتها إلى عمل فنّي. ألم يُضْفِ بروست على كينونته معنى وأسلوباً بتحويلها إلى عمل فنّي بلغ حدّ الكمال؟ لكن، هل يستطيع سائر البشر أن يفعلوا مثل بروست؟ وهل هم قادرون على ذلك؟! أنفق بروست الجزء الأخير من حياته في خلق معنى أدبيّ للجزء الأوّل منها. بيد أنه مسلك تصعب تزكيته لجميع البشر. حياة بروست وإبداعه يلائمان تصوّر نيتشه قلباً وقالباً، لكن ماذا عن العاديّين منّا؟
يلحّ نيتشه على ضرورة أن نكون تلقائيّين، وأن ندرك أيضاً أن لا شيء ممّا نفعله جديد، بل إنّ كل شيء يتكرّر في عَوْدٍ أبديّ، وأنّنا ينبغي أن نكون مبدعين، وأن نحبّ أقدارنا، وألاّ نأسف على شيء، مثل بعض النسّاك ذوي النزعات الميتافيزيقيّة، وأن نظلّ نسعى دوماً إلى السموّ فوق ذواتنا.
لعلّ هجاء نيتشه للعبقريّة في معانيها القديمة مردّه خيبة أمله من أحد نماذجها، فاغنر، فأضحى الإبداع والعبقريّة في عرفه هو الحياة نفسها، رادماً الهوّة بينها وبين الفنّ حتى أمسيا واحداً… يتبع .