مدارات صورة «القيصر» و«الجنرال» في مشهد عالمي متغير
خضر سعادة خروبي
لا يخفى على أحد الأبعاد الرمزية والحفاوة التي حظيت بها زيارة الرئيس الروسي الأخيرة مصر والوفد الكبير المرافق له والذي ضم عدداً من الشخصيات المسؤولة في روسيا عن التعاون الدولي التقني والاقتصادي. قطعاً، لم يعد جديداً أبداً الكلام عن عودة الدفء إلى العلاقات الروسية ـ المصرية منذ احتلال السيسي الحيز الأكبر في المشهد السياسي المصري في أعقاب «ثورة يونيو» 2013 بعد الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين» بما يعنيه من قلق للروس.
المنطقة تتغير ومعها العالم، والجديد في ذلك الحين هو مضي واشنطن بمعية حلفائها نحو التضييق على روسيا وخنقها مالياً واقتصادياً على خلفية الأزمة في أوكرانيا. وكذلك يبدو السياق الإقليمي في الشرق الأوسط ينذر باحتمالات تفجير شهدنا بوادره في المنطقة بدءاً بما جرى في الجولان وصولاً إلى ما يعتبره البعض استنساخاً للتجربة السورية العنفية في مصر ومع جيشها.
بالتأكيد بين الرئيسين ما يجمعهما كالاستحقاقات الاقتصادية والتنموية في بلادهما، إضافة إلى تحديات يطرحها تحالف دولي لمحاربة إرهاب صرح بوتين بأن سببه سياسات تميز بشكل متعمد بين ما أسماه «إرهابيين طيبين» و«إرهابين أشرار» يُعملون جراحهم بالمواطنين المصريين والروس. كما أن الجانبين كليهما لا يحبذان لعبة المحاور المتقاتلة، وهما أكثر ميلاً وفق توجهات واضحة في السياسة الخارجية لكل من مصر وروسيا إلى ما ينسجم مع قواعد القانون الدولي والأساليب الديبلوماسية في حل المشاكل الإقليمية والدولية. وعلى رغم صفقات السلاح التي وقعت، إلا أن الرئيسين ركزا على إعلان ما يتعلق بالاتفاقات والتفاهمات الاقتصادية، كل لأسبابه.
فالقوة الناعمة الروسية الدبلوماسية والاقتصادية مستهدفة كونها أتاحت التعزيز للحلفاء في غير موقع وزمان في وجه «المخططات الملونة» المدعومة من واشنطن. بيد أن موسكو التي أوضح المتحدث باسم الكرملين فيها أن لهجة التحذير لا تنفع مع رئيسها، على يقين تام بما يكتنفه العقل الاستراتيجي الأميركي وماكينته الإعلامية المحرضة على ما تريد الترويج له من «عدوان روسي» لشد عصب المعسكر الغربي المنقسم على ذاته، وفي الوقت عينه، التصويب على التعاون الاقتصادي المتنامي بين غرب أوروبا وشرقها، وروسيا على وجه الخصوص بعقوبات اقتصادية واستدراجها لسباق تسلح. وتجربة الروس في حقبة الحرب الباردة فيها ما يكفي من العبر لتوضيح أن ترسانتهم التسليحية الهائلة لم تمنع هزيمتهم التي تكفل بها «سوق النفط» واستجابة الكرملين لمحاولات استدراجه لنفقات عسكرية باهظة وصولاً إلى ما يعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «أسوأ كارثة جيو- سياسية في القرن العشرين». ويلحظ التاريخ كيف أن «سياسات البريسترويكا» ونهج الرئيس السوفياتي غورباتشوف «الكارثي» عبر سلسلة خطوات حينذاك كتحويل نشاط المصانع العسكرية نحو الاستخدام المدني، لم تهدئ من روع الغرب لدفعه نحو شراكة استراتيجية حقيقية مع موسكو. روسيا التي يقدر حجم صندوق الاستثمار السيادي لديها بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار تطمح لإنجاح مشروع «الاتحاد الأوراسي» الذي أعلن العام الماضي، والعمل على تعزيز دعامتها الاقتصادية في ضوء مشهد الشحن القائم بينها وبين الغرب، عن طريق اتفاقات مع الهند والصين وتركيا وهو ما تسعى إليه على ما يبدو مع مصر التي تحتل موقعا مهماً على خريطة السياسة الخارجية الروسية، لما توليه من أهمية توطيد العلاقة الاستراتيجية معها وما يترتب عليها من نتائج على مستوى تقليص النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
حالهم حال الروس، فقد ضاق المصريون ذرعاً بطريقة التعامل الأميركية معهم الأقرب إلى الابتزاز لا سيما في الملف التسليحي والمرتبط بالمساعدات الأميركية المقدمة إلى القاهرة. وكم كان لافتاً إعلان اتفاق فرنسي ـ مصري قبيل زيارة بوتين حتى تتجنب القاهرة ما قد يقال عن التحاقها بلعبة المحاور الذي قد يجر انتقادات من دول عربية تراهن عليها القاهرة لإطلاق ما يسميه محللون «مشروع مارشال» بتمويل خليجي أساساً لاقتصادها المنهك على نحو بالغ. ويحتل الجانب الأمني وخبرة روسيا في مجال الحرب على الإرهاب.
هذه الريبة يذهب البعض إلى ربطها بريبة تنطوي عليها خطوة ولي ولي العهد السعودي تجاه قطر وتصريحات وزير الخارجية السعودي تجاه الإخوان في توقيت زيارة بوتين القاهرة نفسه، بالتزامن مع ما كانت تناقلته صحف غربية منذ تنصيب العاهل السعودي الجديد عن دوره في دعم تنظيمات متطرفة بما يوحي باستخدام مرتقب لورقة «الإخوان» كوسيلة ضغط على السيسي. وما يتوقعه مراقبون بشأن سياسة الرياض الجديدة تجاه جماعة الإخوان المسلمين ينحو في اتجاه تغليبها لـ «تلطيف الصراع» مع الجماعة وترجيح تشكيل «ائتلاف مذهبي» واسع ممتد من أنقرة إلى عمان وصولاً إلى عواصم الخليج وكذلك القاهرة، التي من المرجح أن تتحمل الفاتورة الكبرى في هذا التحول في التوجهات السياسية السعودية. ولا يقتصر ذلك على بعض دول الخليج، بل ينطبق ذلك على الجانب «الإسرائيلي» التي أبدت وسائل إعلامه تخوفاً من عودة العلاقات الروسية ـ المصرية إلى عصرها الذهبي أيام الرئيس الراحل عبد الناصر.
في وقت لا يخفي مسؤولون في القطاع المصرفي الروسي عزمهم على زيادة الاستثمار في الشرق الأوسط، تبدو الرهانات المصرية واثقة في أن تساهم زيارة الرئيس بوتين في دعم مسار المؤتمر الدولي لدعم الاقتصاد المصري المزمع عقده الشهر المقبل خصوصاً مع ما تبديه مصر من تعاون مع الجهات الدولية لجهة تعزيز مناخات الاستثمار فيها. وليس سراً القول بأن الجانب الأمني وخبرة روسيا في مجال الحرب على الإرهاب بنداً أساسياً في مسار التقارب المصري ـ الروسي، وهو ما تحدث عنه سفير الاتحاد الروسي في العاصمة المصرية.
ربما يكون «تبادل الورد والود» ليس الأول بين «القيصر» و«الجنرال»، لكن العلاقات بين مصر السيسي وروسيا بوتين تبدو لأول مرة أمام تحد حقيقي في ظل تبدل الظروف الاستراتيجية المحيطة بالبلدين كليهما، وفي ظل طموحات الرئيسين لبلورة حل سياسي للأزمة السورية، وهو حل، إذا ما كتب له النجاح، ستقف حدوده في مكان أبعد بكثير من حدود سورية. والعبرة في كلام الرئيس الروسي في مؤتمر ميونيخ قبل أيام.