صوغ أسئلة الهوية
نظام مارديني
تعيد المسألة الشرقية، في كل مرة تواجه مجتمعنا معضلة، صوغ أسئلة الهوية ومدى ارتباطها بمسألة المواطنة، وتحديد نقاط ضعفها وقوتها؟
مذ برزت المسألة الشرقية في العلاقات الدولية للمرة الأولى مطلع القرن التاسع عشر، وعُرفت على نحو عام نتيجة لانهيار الإمبراطورية العثمانية، شكلت الأقليات عنوانها الأبرز، والمراد تبديل الخرائط وتغيير أسماء المساحات الجغرافية.
من الإشكاليات التي تواجه الهوية السورية أن المثقف لم يبقَ يعي دوره حيال مجتمعه، بل أصبح دوره مريباً في تسطيح الوعي الجمعي، لتحقيق منافع أقليته المذهبية أو الطائفية أو الإثنية، ومن يتابع صفحة التواصل «فيسبوك»، يكتشف بسهولة إلى أي درك وصل المثقف في بلادنا والانقسام الحاد الذي يعيشه على الصعيدين العمودي والأفقي.
لكن ماذا تعني الهوية؟ هل هي مفهوم ثقافي أم أنثروبولوجي، أم هي مجال لغوي أو إثني أو مذهبي؟ وهل أصبحت متماهية مع عُصاب الجماعات، يجعلها هويات قاتلة أو مقتولة؟
هذه الأسئلة تضعنا جميعاً أمام عتبة إشكالية مرعبة لمواجهة معطى الهوية وتعقيداتها، بكل ما تستدعيه من مثيرات، أو ما تفترضه من تبديات قهرية، لها تمظهراتها وخطبها الراكزة في سوسيولوجيا السلطة والدين والجماعة، إذ كثيراً ما تحمل هذه التعالقات معاني غامضة ودلالات ملتبسة، مفارقة أحياناً، فهي تنعكس على تسويغ منظور محدد للذات والوجود، مثلما تنعكس على أنسنة مفهوم الهوية، وفي استقراء محمولاتها في التاريخ الصراعي، وفي أنثروبولوجيا الجماعات. كما أن محمولها السوسيوثقافي يمثل هو الآخر مرجعية معرفية وتاريخية تتعالق بوظيفتها الإشكالية في التعاطي مع قيم الحداثة والفكر وجدال الثقافات والعقائد.
أقنعة الهوية في هذا السياق ترتبط بمأزق هذه الهوية في التاريخ، فهي أقنعة نصوصية أو عصابية أو مظاهر لقوى طاردة أو قوى مهيمنة أو قوى ترتبط بقوة المركز الحاكم. وهذا التوصيف افترضت له بطبيعة الحال قراءات خلافية وأكثر تعقيداً للصراعات التاريخية، التي هي في جوهرها صراعات عصابية قبلية عبرّت عن نفسها دائماً من خلال الصراع حول السلطة، ما وضع مفهوم الهوية في سياق إشكالي معقد تشظت فيه الذات الوطنية إلى أنواع من التبعيات التي تستعير التاريخ وصراعاته، حين تشظت عبرها الذات بين العربية والإسلامية والإثنية، تحت سلطة الجماعات إلى فرق ونحل وملل، تلك التي تضخمت فيها الـ»أنا» لتتحول إلى شكل رهابي للقوة القهرية، قوة الجماعة، التي تفرض موقفها الشرعي/ السلطوي مقابل قوى أخرى، باطنية مطرودة ومكفرة.
هذه المآزق الصراعية تركت سؤال هذه الهوية – بمعناه الحديث – المحشو بهذه الصراعات معلقاً وعائماً إزاء التاريخ المدون بغموض، أو مشوشاً إزاء مسألة الدولة العصابية، أو حتى إزاء الجماعة أو الطائفة. فهي تموضعت في السياق التداولي كرهانات فكرية، وكمنظورات أنثربولوجية وسوسيولوجية، لكنها مطروحة بوصفها أزمة تعايش، وأزمة صراع، ما يعني تعالقها دائماً بالإشكالات السياسية والعقائدية والثقافية التي تعيشها الدولة المعاصرة.
إذا كان التنوع الثقافي حقيقة إنسانية لا ينال منها الشك فإن التعامل الخاطئ معه يفضي إلى أخطار جمة، لا سيما إذا حصل هذا التعامل في محيط مرشح للاضطراب وقابل للاستثمار الاستخباري والسياسي دولياً وإقليمياً ومحلياً ضمن اشتغال معادلة «السلطة/ الثروة/ النفوذ»، كما كانت الحال في العراق بعد انهيار الدولة أو شبه الدولة مع الاحتلال الأميركي وسقوط نظام صدام حسين ربيع 2003 .
السؤال المحرج الذي يطل برأسه: هل نتحدث عن تعددية ثقافية في فضاء تداولي تفاعلي أم عن تعددية أقليات وجماعات معزولة بثقافاتها بعضها عن بعضها الآخر، وقد تمركزت كل أقلية أو جماعة منها على ذاتها، وهويتها المفردة؟
التنوع البشري، الإثني، الثقافي، معطى تاريخي، وظاهرة لصيقة بالوجود الإنساني وطبيعة البشر، فيما التعددية أطروحة فلسفية نظرية، وممارسات وإجراءات سوسيوسياسية ترتكز في مرجعيتها على ذلك المعطى وتلك الظاهرة. والتعددية عامة تنبع من حاجة الفرد والمجتمع، لوعي ماهية انتمائه وهويته، ومن يكون إزاء الانتماءات والهويات الأخرى، وما موقعه ودوره في العالم، تاريخياً، وفي هذه اللحظة، ومستقبلاً. لكن التعددية لا تعني عزلة الجماعات بعضها عن بعضها الآخر وإقامة كانتونات ذات حدود محروسة بين جماعة وأخرى. حين تُفهم هكذا تكون المقدمة لنشوء سوء فهم مؤسف وسوء تمثيل للآخر وتصويره، ما يفضي إلى احتدام الكراهية والنبذ والإقصاء، ومن ثم الميل إلى العنف.
في كتابه «الهوية والعنف وهم المصير الحتمي» 2006 يرى إمارتيا صن، وهو فيلسوف واقتصادي هندي، حاز نوبل الاقتصاد عام 1998 «أن أسهل السبل «ليس دوماً أفضل طريقة لبناء مستقبل لأي بلد، خاصة عندما يكون هناك شيء مهم جداً على المحك هنا، وبالتحديد الحاجة إلى أن تكون الأمة كتلة من المواطنين، لا مجموعة من الإثنيات الدينية».
لكن أليس من حقنا أن نحاول قراءة المشهد من زاوية أخرى مؤدّاها أن الدولة ـ الأمة ومنذ تأسيسها بعد تقسيمات سايكس بيكو، بقيت كياناً هلامياً هشّاً بلا فلسفة بناء دولتي، وبلا رؤية وبرامج سياسية عملانية واضحة وفاعلة يمكنها من ترصين أسس الدولة ـ الأمة؟
في خضم الحراك الخاص بصراع الإثنيات راهناً للفوز بحقوقها الثقافية والسياسية والوجودية، لا سيما في الدول ذات القواعد القانونية والمؤسساتية الهشّة، تطفو إلى السطح فئات طفيلية نفعية مغامرة تدفع في اتجاه انعزال جماعتها وتخندقها في مواجهة الإثنيات/ الجماعات الأخرى، مختلقة عُقداً متوهّمة أو مستثمرة عُقداً من الماضي البعيد، مُعيدة إنتاجها بأردية جديدة لتفعل فعلها في الحاضر وتهدد بها السلم الأهلي ومستقبل البلاد. ولأن قضية التعددية الثقافية وحقوق الأقليات والجماعات لم تُطرح، عندنا، في إطار دستوري وقانوني وحقوقي واضح، ورصين أضحت التعددية الثقافية تعددية جماعات أهلية، غير مدنية، مرشّحة للتصارع العنفي، وقابلة هي ذاتها للانشطار المرة تلو المرة.
ليس معقولاً أن تعني التعددية الثقافية حفاظ كل إثنية على هوية مفردة، نهائية، من غير أن تطوِّر ماهية تلك الهوية وتجعل من ثقافتها منفتحة على الثقافات الأخرى، وتنبذ معتقداتها الخاصة إنْ كانت تنطوي على مثل هذه المعتقدات بتفوقها الإثني العنصري ، واحتقارها للآخر، وانغلاقها على نفسها، ومن غير أن تتجاوز قيمها التي تعطيها الحق في سلب حريات أفرادها، وخلق تراتبية تمييزية ضد بعض فئاتها، خاصة المرأة.
هذه الإشكالية المستعصية يطلق عليها ويل كيمليكا في كتابه «أوديسا التعددية الثقافية: سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع» مصطلح الإحراج الأخلاقي إذ «واجهت محاولات تدويل نزعة التعددية الثقافية وحقوق الأقليات حقل ألغام حقيقياً ممتلئاً بخليط مضطرب من التصوّرات والمفاهيم والإحراجات الأخلاقية والنتائج غير المقصودة والتناقضات القانونية والتلاعبات السياسية». ويتساءل كيمليكا، وهو أكاديمي وكاتب كندي وناشط في مجال حقوق الأقليات دولياً، عمّا إذا كان الهدف «أن نفتح المجال لسياسات التعددية الثقافية الديمقراطية النابضة بالحياة، أم أن الهدف هو كبت واحتواء الحراك العرقي المزعزع للاستقرار؟».