شبابنا… والثقافة

د. سلوى خليل الأمين

الممارسة السياسية في لبنان ليست علماً يدرس ويتبع، بل هي حالة وراثية متشابكة الفصول والأبعاد عند البعض، وعند البعض الآخر فرصة حظ، عمادها امتلاك المال الوفير أو التبعية للزعيم أو الانتماء إلى حزب سياسي، أما الشباب المستقلّ الذين يؤمنون بأنّ الوطن مساحة لحراكهم وتطبيق أفكارهم، فلا مكان لهم تحت شمس الوطن، فاحتكار المواقع السياسية كما غيرها، هي حالة مصادرة ووراثة وتبعية. لهذا تتمادى هجرة الشباب والشابات صعداً، خصوصاً عند أولئك الذين يرفضون تقديم فروض الطاعة لمن يملك الرقاب والعقول ونمط التفكير أيضاً. لهذا لا بدّ من إعادة الاهتمام بدور الفكر والمعرفة في عملية بناء الوعي الوطني، الذي هو فعل التنوير في المجتمعات الطامحة إلى التطوّر والارتقاء، حيث اكتمال الأمر لا يمكن أن يسوّى إلا بالعودة إلى تسليط الضوء على الدور المهمّ لأهل الفكر والمعرفة، المشهود لهم عبر العصور سياسياً وإعلامياً واجتماعياً وتربوياً وثقافياً بوساعة رؤاهم ورجحان فكرهم، لهذا لا يمنع من تكريمهم عبر منح وزارة الثقافة وكوادرها للمتفوّقين والمبدعين منهم، فمصر في ما مضى منحت وزارة التعليم العالي للأديب الكبير طه حسين، وسورية أرسلت الشاعرين عبد المطلب الأمين ونزار قباني سفراء إلى الخارج، ولبنان عيّن الأديب توفيق يوسف عواد سفيراً أيضاً، لهذا لا يجوز تهميش دور المثقفين، خصوصاً عبر وسائل الإعلام أيضاً، من باب المساواة مع أهل السياسة، الذين تفرد لهم الصحف اليومية صفحاتها المتعددة وكذلك وسائل الإعلام المرئي والمسموع، في الوقت الذي لا تأخذ الثقافة، بمختلف أبوابها وتنوّعاتها، من أدب وشعر وفنّ أصيل ورسم وموسيقى سوى صفحة واحدة من الصحيفة اليومية ولا الحيّز المطلوب من البرامج التلفزيونية، علماً أنّ العديد من الصحف اللبنانية الصادرة يومياً، قد أوكل ناشرها أمر تحرير الصفحة الثقافية فيها، إلى شاعر أو أديب يحتكر أبوابها وشخصياتها ومواضيعها حسب مزاجيته الصالحة والمتصالحة مع البعض، والغاضبة من البعض الآخر، بغضّ النظر عن أهمية الفائدة المرجوة من الاطلاع على ما يصدر في تلك الصفحة الفريدة، التي لا تفي بالمطلوب، ولا تعطي الحق لأصحابه، وهنا تقع المسؤولية على رئيس التحرير الذي عليه أن يكون ملماً بكلّ ما هو ثقافي فاعل ومتفاعل على الساحة اللبنانية. مع العلم أنّ الكمّ الهائل من النتاج الثقافي المتعدّد والمتنوّع، الذي يتماهى على الساحة الوطنية بكثرة وبحيوية فاعلة ونشيطة، لا يحظى بما هو متوجب نشره إعلامياً، بالرغم من تعدد وتنوّع الندوات الأدبية والفكرية، والأمسيات الشعرية، ومعارض الرسم والنحت، والحفلات الموسيقية الكلاسيكية والشبابية الحديثة، ومعارض الكتب مع ما يتخللها من تواقيع الكتاب والشعراء لكلّ نتاج جديد، مع كلّ ما تتضمّنه من إغناء للعقل وترشيد للمتلقي أو القارئ للالتقاء على دروب الحضارات السالفة والحاضرة، خصوصاً تلك التي يمكن لنا أن نصنعها من جديد، عبر إيصالها لأكبر شريحة من الشباب، الذين هم ركيزة الزمن الآتي، بالرغم من حالة الضياع التي سبّبتها العولمة على عقولهم ومساراتهم، بكلّ ما فيها من مشاكل ومآخذ، وأهمّها طمس لغتنا وتاريخنا وخصوصيات مجتمعنا الشرقي والعربي.

لهذا من الواجب بل المفروض العمل على رفد الوطن بإرث ثقافي جديد ومتمكن، لا يمكن محوه بسهولة، نثبت من خلاله، عبر العصور الآتية، أننا في هذا الوطن صناع حضارات تتوارثها الأجيال، لا تقاس، حتماً، بمحاضرات بيت «بو سياسة» التي تفرّق ولا تجمع، لأنّ ما يتركه أهل المعرفة من نتاج وإرث ثقافي، يغني العالم بحضارات قيمة، لا تطمسها ألاعيب العولمة والسياسات الخاطئة المتخمة بصراع البقاء، والحروب المدسوسة، والأفكار الهدامة، والفتن الطائفية والمذهبية التكفيرية… فالثقافة الوطنية والمعرفية هي العنوان القيّم والمتميّز عبر كلّ عصر وزمان.

لهذا أيضاً، لا يمكن إهمال بناء المواطن ثقافياً ومعرفياً ووطنياً، خصوصاً بعد هذا الوهن السياسي والإرباك الاقتصادي والطائفي المتمذهب، الذي تغلغل في شرايين الوطن وناسه السذج، بعد تهميش دور المثقف عبر مؤامرة مبيّتة، هدفها القضاء على الوطن وتقسيمه فرقاً متناحرة. لهذا يكبر السؤال، حين المطلوب من المثقفين عدم الوقوف موقف المتفرّج والأصمّ، لأنّ الصامت عن الحق شيطان أخرس، وتحمّل المسؤولية تحتم عليهم أن يكونوا عوناً لأهل الحكم، عبر عدم التلكؤ عن بث مفاهيم السياسة المعرفية في أذهان الناس الذين يتعرّضون يومياً لعملية غسل الأدمغة، بأساليب شتى تؤدّي إلى انهزام الوطن وضياعه.

المؤسف أنّ الدور الفعّال للمثقفين قد تمّت مصادرته في لبنان، في اتحاد الكتاب اللبنانيين، وهيئة التنسيق النقابية، كما في بقية النقابات المتنوّعة، والمراقب، لكلّ ما يجري على مساحة الوطن من تدنّ في الضمائر والسلوكيات الاجتماعية والسياسية، يلحظ انخفاض درجة الوعي الوطني، ويدرك مدى خطورة تدني الثقافة الوطنية عند الجيل الجديد، بمختلف مقوّماتها المعرفية والفكرية واللغوية، التي هي الأساس المتين لتثبيت المداميك القوية لتطوير الوطن وارتقائه.

إنّ عدم الاهتمام بالثقافة وأهلها والنظر إليها على أنها حالة ثانوية، تقع مسؤوليته أولاً على رجال الصحافة، وثانياً على الدولة والمسؤولين، وعدم الانتباه إلى خطورة انتشار الوسائل التكنولوجية الحديثة، التي أبعدت الجيل الجديد عن الكتاب ومشتقاته، مما أدّى إلى انهيار الفكر وحركة الوعي إلى الدرك الأسفل، بعد أن طغت العولمة بروافدها وأبجديتها الجديدة، التي باتت على باب قوسين أو أدنى من جعل لغة الضاد لغة هامشية، ومن جعل الكتاب العربي لزوم ما لا يلزم، بعد أن طغت لغة «تويتر» و«فايسبوك»وغيرها من علوم التواصل الاجتماعي الحديث، بحيث أصبح الهاتف النقال بما يختزن من معلومات، هو الأداة الوحيدة التي يستعين بها هذا الجيل على قضاء حوائجه المعرفية.

فالتطوّر لا يكون لغة ممجوجة مطعّمة بالمفردات الأجنبية، وليس معنى الحديث أن يتمّ إهمال معرفة اللغات الأجنية، حين اتباع الحديث القائل: «من عرف لغة قوم أمن شرهم»، بشرط ألا يتمّ استبدال لغة الضاد بلغة جديدة هجينة مطعّمة بالمفردات الإنكليزية والفرنسية، وأن تصبح هذه اللغة المستجدّة هي لغة التخاطب إعلامياً واجتماعياً… هذا التطاول على اللغة العربية يعتبر مؤامرة منظورة ومقصودة، فشبابنا اليوم لا يتقنون لغة الضاد كتابة وقراءة وحديثاً، وبالتالي هم جيل المستقبل الآتي، يعني أنّ منهم من سيكون نائباً عن الشعب مستقبلاً، ومنهم من سيكون وزيراً يتحمّل مسؤوليات جساماً، ومنهم من سيكون رئيساً للجمهورية أو لمجلس النواب أو لمجلس الوزراء، ومنهم من سيكون قائداً لجيش الوطن أو مديراً في إدارة رسمية أو خاصة، باختصار هم جيل الغد… لهذا علينا الانتباه إلى كيفية بناء الوطن على أسس سليمة؟ فكيف للمسؤول ألا يتقن لغة الضاد، يعني اللغة الرسمية للبلاد؟ وكيف لنا أن نطمئن إلى مصير الوطن الذي تسقط فيه الهوية بإسقاط اللغة الأمّ ومن ثمّ الانتماء الوطني الصحيح؟ أسئلة نطرحها لأنّ المطلوب العمل من أجل بناء المواطنة عند الشباب، بعيداً عن التطرف الديني والمذهبي والخلافات السياسية، والتركيز على أهمية دور النخب المثقفة، التي تحسّن الانتماء للوطن وهويته، والتي في جعبها تكمن آليات التميّز الحضاري والوطني، حيث تربية المواطنة في الأجندات هي فعل ثقافي ومعرفي متميّز، ينتج الوعي والإدراك، الذي يجب أن يتمّ الانتباه إليه خصوصاً لدى الجيل الجديد، عبر التصدّي للجهل والتطرف بكلّ مشتقاته وروافده.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى