«إيفانوف» لتشيخوف على خشبة المسرح في باريس… سأم وحيرة مفضيان إلى اليأس

للفرنسي لوك بوندي، مدير المسرح الأوروبي أوديون بباريس، تجربة في الإخراج المسرحي تتجاوز أربعين عاماً، ورغم إعجابه الكبير بتشيخوف الذي يعتبر أنه يجمع بين شكسبير وبيكيت، لم يقبل على أعماله إلاّ مرتين، الأولى عام 1978 مع «بلاتونوف»، والثانية عام 2001 مع «النورس»، لذا وصف تقديمه مسرحية «إيفانوف»، إلى 28 شباط الجاري ، من أفضل الممثلين الفرنسيين.

«إيفانوف» مسرحية كتبها أنطون تشيخوف عام 1887، وكان في السابعة والعشرين، وليست أولى مسرحياته إذ ألف قبلها «بلاتونوف» رفضها مسرح مالي في سان بيترسبورغ، وأعدّ مسرحية أخرى عنوانها «الطريق الكبرى» عن إحدى قصصه القصيرة فصادرتها الرقابة.

رغم أن «إيفانوف» من بواكير أعماله، فهي ناضجة وتنطوي بعدُ على البنية التي سوف تستند إليها نصوصه اللاحقة والتيمات التي ستتضمنها، مثل الإحساس بعالم يمضي إلى نهايته، وصعود فئات اجتماعية جشعة متهوّرة تتوق إلى دنيا صاخبة.

تلك التيمات تجعل من تشيخوف كاتباً حديثاً، يحمل هموم عصره وينطق بهموم ما يليه. مسرحه يتجدّد على الدوام، فالحوادث هنا تدور في روسيا القيصرية، نهاية القرن التاسع عشر، بين مرحلتين، ونمطين مسرحيين كلاسيـكي ومعـاصر.

يصور تشيخوف، قبل ظهور التحليل النفسي حالة الانهيار العصبي التي يعانيها إيفانوف، ويقدّم قبل مجيء تيار الواقعية الاشتراكية بطلاً سلبياً، ممثلاً بثري في مقتبل العمر يملك الجاه ما يحضّ الآخرين، إناثاً وذكوراً، على التقرب منه، لكنه دائم القلق والحيرة ولا يعرف ماذا يفعل.

يرمز إيفانوف في نظر تشيخوف إلى خوف المثقفين أمام سياسة الحكومة القمعية آنذاك وتدني الوضع الاجتماعي. إذ يعجز عن وصل أحلامه بمقتضيات الواقع يغدو نهباً لكبت الضمير والإحباط، فيهمل وزوجته أنّا المصابة بمرض السّل ليغوص في كآبة عميقة. تحاول ساشا، ابنة أحد جيرانه التي أحبته، أن تزيلها عنه، رغم الموانع الاجتماعية، فالرجل متزوج، ويهواها بدوره. ولا تكاد زوجته تلفظ أنفاسها حتى يقرّر الزواج من ساشا هذه.

وفي يوم الزفاف يصفه الطبيب لفوف بالوغد أمام الناس، فهو لم يقترن في رأيه بزوجته المتوفاة، إلاّ لكونها يهودية ثرية. فيشعر إيفانوف بطعنة وينسحب خلالها من حفل زفافه ويُسمع صوت طلق ناري، يؤذن بنهايته.

عبر هذه الميلودراما التي يأتلف فيها الحزن والدعابة الخفيفة، تتجلى طبائع ثلاثة: طبع إيفانوف وقد سئم نفسه والناس والعالم على نحو لا يرتجى منه شفاء، وطبع ساشا التي خالت أن للحب قوة تستطيع وحدها إنقاذ حبيبها من الوضع الذي غرق في أوحاله، وطبع الدكتور لفوف الطبيب الشريف الأمين والمحدود الذكاء في الوقت نفسه، فما رام حلّ مشكلة إلاّ عقّدها.

رغم ما تنطوي عليه شخصية إيفانوف من سلبيات، فإن تشيخوف يحبوها عطفاً خاصاً، ويمنّي النفس بأن يحبّ الناس ذاك الرجل المحطّم. يرد في رسائله إلى صديقه سوفورين: «بدا إيفانوف في المسرحية وغداً أو إنساناً لا فائدة منه، وإذا بدا الطبيب إنساناً ذا قيمة، وإذا لم يفهم الناس لماذا أحبّت أنّا وساشا إيفانوف، فإنّ فمسرحيتي لم تبلغ غايتها».

يبرع تشيخوف في المزج بين الكآبة الشفيفة والسخرية الخفيفة الذي تطبع أسلوبه، فالكآبة لديه لا تتحول إلى قتامة سوداء تحيل على تراجيديا إغريقية، والسخرية لا تنقلب فكاهة تثير الضحك. إيفانوف شخصية معقدة، ذات أوجه عديدة، تبدو فريسة للشك والعدمية لكثرة تذمرها، ويغلبها خمول وجبن وعجز معاكس لما تتحلى به معظم الشخصيات الأخرى من اندفاع ورغبة في اغتنام مباهج الحياة، ورغم ذلك ينجح تشيخوف في جعله شخصية محببة، كأنها في داخلها مزايا دفينة، أو سموّاً روحياً غير جليّ، ليحوّلها إلى شخصية فاتنة، مثل هاملت، أشبه بشعلة تلتهب باستمرار.

كأن تشيخوف، الذي عاش حياته «شاهداً محايداً» على ما يقول، إذ لم يكن يصدر أحكاماً معيارية على شخوص مسرحياته، لا يريد للجمهور أن يحكم على إيفانوف. حسبه أن ينقل «احتجاج النفس على سوداوية الحياة»، «بحثاً عن حياة أفضل» وصفها في قصصه الأولى.

المسرحية، وإن بدت تصويراً لواقع مجتمعي معيّن في فترة ما، كان من غايتها التصدّي لظاهرة الرتابة التي تبعث على السأم والملل وربما الانتحار، والدعوة إلى التحرر من سطوة العيش اليومي والآراء التقليدية. وهذا ما نهض له تشيخوف في أعماله اللاحقة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى