جبهة الشمال… تركيا تتخبّط وإلى دور جديد عقيم

العميد د. أمين محمد حطيط

في موقف لا نعتبره في ذاته جديداً، أذعنت تركيا للطلب الأميركي بإقامة معسكرات تدريب على أراضيها، من أجل إعداد وتهيئة من تسميهم أميركا «معارضة معتدلة» لزجّهم في الميدان السوري الذي أضرمت النار فيه عدواناً على سورية وعلى محور المقاومة، وعجزت مع بقية المعتدين عن تحقيق أهدافهم طيلة السنوات الأربع الماضية على رغم تغيّر الخطط وتبدلها وإعادة توزيع المهمات والأدوار بين المنفذين والتابعين.

فتركيا لم تدخل الحلبة حديثاً ولم تضطلع بمهمة من مهمات العدوان على سورية اليوم مع قبولها بالوظيفة التي أسندتها أميركا إليها، بل كانت «سباقة» في القيام بالأفعال الإجرامية ضد الدولة السورية بكل مكوناتها منذ اللحظة الأولى التي أطلقت فيها الرصاصة الأولى على الصدر السوري إيذاناً بالبدء بالعدوان وإضرام النار في الجسد السوري.

وعلى سبيل التذكير فقط وليس الحصر، فإن تركيا هي أول من أقام مخيمات لمن أسمتهم اللاجئين السوريين، حتى قبل أن يكون في الأفق مجرد تفكير في حصول ذلك، وهي التي احتضنت وآوت ونظمت من أطلقوا على أنفسهم اسم «المجلس الوطني السوري» أي «مجلس إسطنبول»، وتركيا هي التي تحولت إلى قاعدة عسكرية متعددة الوظائف لاستقدام الإرهابيين وتجهزيهم ودفعهم إلى الميدان السوري لارتكاب فظائعهم هناك، وتركيا هي التي سرقت 1200 مصنع ومؤسسة سورية من حلب لتدمر الصناعة السورية التي عجزت تركيا عن منافستها في مجالاتها.

وقبل هذا وبعده، فإن تركيا هي التي قادت ومعها قطر أعمال تنفيذ الخطة الأولى للعدوان على سورية وعلى محور المقاومة والمنطقة والمعروفة بخطة الإخوان المسلمين. وخلاصة الأمر هي أن تركيا – أردغان التي فتحت سورية لها الأبواب إلى العالم العربي وتهيأت لتقيم معها نوعاً من تفاهم استراتيجي ذي قابلية للتحول إلى تحالف في صيغة معينة، انقبلت على التفاهم وغدرت بسورية وطعنتها في ظهرها وقادت محاولة إسقاطها لتستعمرها وتجعلها اللبنة الأساس في إمبراطورية بني عثمان الجديدة التي تستعيد بها ذكرى السلطنة البائدة.

إذن، فالدور التركي في العدوان على سورية أو القيام بوظيفة أو مهمة في سياق هذا العدوان ليس بالأمر الجديد، ولا يكون قبول تركيا بتدريب الإرهابيين وفتح معسكراتها للأميركيين من أجل ذلك أمراً مستهجناً أو غربياً، فقد قامت تركيا بما هو أكبر من ذلك وأبشع، ولكن السؤال الذي يطرح الآن لا يتعلق بطبيعة العمل ذاته، بل نراه يدور حول التوقيت والخلفية والتداعيات، أي بصيغة أخرى نقول: لماذا قبلت تركيا الآن هذا التدريب بعد ممانعة ومماطلة لأكثر من 3 أشهر؟ وما الأهداف التي ترمي تركيا إلى تحقيقها من خلال هذا الأمر؟

بداية، لا بد من التذكير بأن قرار أميركا بتدريب إرهابيين لزجهم في الميدان السوري اتخذ مباشرة بعد الأشهر الأولى من قيام التحالف الذي قادته أميركا وادعت بأنه تحالف لقتال «داعش»، وأرادت أميركا منه أن تجهز قوى برية تتكامل في عملها الميداني مع القوى الجوية للتحالف من أجل تنفيذ ما ادعته من قتال «داعش» وأقامت التحالف الدولي لهذا الشأن. وقد سعت أميركا إلى إقامة معسكرات التدريب في المنطقة بما يمكنها من إعداد القوة البرية التي تعول عليها لإحداث ما تتوخاه من «توازن استراتيجي في الميدان السوري» يفتح الطريق كما تتصور إلى حل سياسي في سورية يحقق لها مكاسب معتبرة في المشهد السوري والإقليمي على حد سواء.

لكن تركيا رفضت القبول بالطلب الأميركي، لأنها رأت أن الاستثمار المباشر مع «داعش» هو أفضل لها من الاستثمار العام في إطار التحالف الدولي الذي لن يعطيها أكثر مما ستنال الدول الإقليمية الأخرى من السعودية إلى الأردن فقطر، وهي حصص مع الوجود الأميركي ستكون قريباً من العدم، لذلك تمنعت تركيا عن الانخراط بالتحالف الدولي وأحجمت عن الموافقة على إقامة معسكرات تدريب أميركية على أراضيها لإعداد من يقاتل «داعش»، لأن داعش كان بالنسبة لها مشروع استثمار ميداني مربح على أكثر من صعيد بدءاً بالمسائل المالية والاقتصادية وصولاً إلى المسائل الاستراتيجية مروراً بالسياسة والميدان.

وفجأة وافقت تركيا على الطلب الأميركي الذي رفضته بشدة قبل أشهر ما يثير السؤال عن السبب والخلفية. وهنا نرى أن الموافقة التركية عائدة برأينا وهذا هو المهم، إلى الأسباب التالية:

يقين تركي بأن الخطة الأميركية التي تتخذ من «داعش» عمودها الفقري قد فشلت لهذا اتخذت تركيا إجراءات عسكرية جديدة على حدودها مع سورية ، وباتت أميركا تفتش عن بدائل منها، وبالتأكيد تركيا سمعت أو شاهدت ما يجري على الصعيد الأردني والتحضير الأميركي للعمل الخيار الأردني، ما يجعلها في حال وضعه نهائياً موضع التنفيذ خارج المشهد فهي خسرت مع سقوط خيار «داعش»، بعد خسارتها خيار الإخوان ولن تكون من الرابحين في حال نجاح الخيار الأردني.

العملية العسكرية الحاذقة التي نفذها الجيش العربي السوري في الشمال السوري والتي أدت إلى عزل حلب بشكل شبه محكم، وقطع طرق إمداد الإرهابيين من تركيا، ما يعني تهميش الدور التركي ميدانياً وحرمان تركيا لاحقاً من لعب دور مؤثر في مسارات المواجهات التي تتم بين الجيش العربي السوري والإرهابيين بشتى عناوينهم وتسمياتهم.

ضمور دور الهياكل الكرتونية السورية التي أنشئت في الحضن التركي بدءاً من «مجلس إسطنبول» إلى «الائتلاف السوري»، وهو ما تكرّس بشكل عملي في لقاء موسكو الذي جمع حول طاولة التداول السياسي بالشأن سوريين معارضين وممثلين للحكومة السورية بشكل أوحى بأن هناك إمكاناً للسير في حوار وطني داخل سورية من دون أن يتوقف الأمر على وجود هذه الهياكل التي تعول عليها تركيا للتدخل أو امتلاك جزء من القرار السوري الداخلي.

استحالة تلبية شيء من مطالب تركيا لجهة إقامة المنطقة العازلة أو منطقة الحظر الجوي أو ما يشبه ذلك، وسقوط تلك المكالب في مكبات النفايات.

تأسيساً على ما ذكر وجدت تركيا نفسها خارج ميدان التأثير، وأن أحلامها في سورية سقطت بكل عناوينها، فالخطة التي قادتها فشلت خطة الإخوان ، والدور الميداني المباشر إلى تراجع وانحسار بعد عظيم الإنجازات التي تحققت على الجبهة الشمالية، والتأثير السياسي إلى ضمور وتآكل، لكل ذلك رأت تركيا وهي العضو في الحلف الأطلسي أن تعود وتلتحق بالتحالف الدولي وإن من باب خلفي يعبر عنه بمعسكرات تدريب أميركية على أراضيها للإرهابيين. ولكن هل لهذا الأمر تأثير وفعالية جدية على مسار الأحداث.

لو عدنا إلى الخطة الأميركية ذاتها، لوجدناها تتضمن إقامة خمسة معسكرات تدريب في كل من السعودية والأردن وقطر وتركيا، يستوعب الواحد منها ما بين الألف إلى 3 آلاف شخص، يخضعون لتدريب مدته ستة أشهر بحيث يتمكن المعسكر الواحد من ضخ خمسة آلاف مسلح في السنة الواحدة على أن يبدأ العمل بالمعسكرات في آذار المقبل وتكون الدفعة الأولى جاهزة في نهاية أيلول 2015 بحجم 10 آلاف مسلح. يتبعها في نيسان 2016 ما بين 10 إلى 15 ألفاً، أي ما يكون في مجموعه 25 ألفاً من المرتزقة الذين تريد أميركا أن تجهزهم لاستلام المناطق التي يسيطر عليها «داعش» الآن وتقيم بهم توازناً استراتيجياً مع الجيش العربي السوري والقوات الحليفة…

فإذا حللنا هذه الخطة وفقاً لقواعد العلم العسكري والمنطق البسيط لوجدنا أنها من السطحية ما يجعلنا قادرين على الحكم بعقمها والقول بفشلها حتى فقبل أن تنطلق، فمن يضمن لأميركا أن يبقى المشهد الميداني منتظراً من غير حسم حتى تفرغ هي من تجهيز عدتها لعدوان جديد بخطة جديدة بخاصة أن الطريق قطعت كما يبدو على الخيار الأردني وتتسارع معارك الحسم والتطهير من الجنوب إلى الشمال مروراً بالوسط، لترسم أو تؤكد حقيقة لا يعمى عنها إلا الغافلون حقيقة تؤكد أن محور المقاومة وقلعته الوسطى سورية انتصر، واللعبة كما قال السيد حسن نصرالله انتهت، ولن تغير في المشهد خطط أو استعراضات بهلوانية جديدة ولن يكون لتركيا من معسكرات التدريب نصيب يعوض فشلها وإخفاقاتها السابقة.

خطة التدريب الأميركي للإرهابيين في تركيا والمنطقة هي استعراض تريد منه أميركا الابتزاز والإيحاء بأنها لم تلق أوراق اللعبة وأن في جعبتها ما ترمي به في الميدان، فالخطة هذه برأينا جاءت بها أميركا من أجل تحديد خسائرها وحفظ ما أمكن من مصالحها ولا يهمها ما ينال هذا أو ذاك من حلفاء واتباع، ولن يكون لتركيا من الموقف الجديد نصيب أفضل من فشلها في خطة الإخوان وخطة «داعش» ولن يخرجها من تخبطها وإحباطها بسبب الصمود السوري.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى