مصر.. لمهمات خارج الحدود
خضر سعاده خرّوبي
ساهمت جريمة «داعش» بحق مجموعة شبان مصريين في خلق دينامية جديدة داخل مصر تتصل في بلورة اتجاه ضاغط في الشارع والإعلام يطالب الحكومة بالتحرك، الأمر الذي دفعها إلى إعلان توجيه ضربات جوية داخل ليبيا للتنظيم الإرهابي ومطالبة الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتدخل الدولي لمحاصرة الإرهاب عند حدود بلاده الغربية. وفي هذا السياق، أوضح استطلاع للرأي أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام بصيرة حول الضربات التي وجهتها مصر لـ»داعش»، أنّ 85 في المئة من المصريين الذين شملهم الاستطلاع موافقين على العملية العسكرية، و8 في المئة غير موافقين، و7 في المئة لا يستطيعون التحديد. كما أنّ 76 في المئة ممّن أُجريَ معهم الاستطلاع موافقون على توجيه ضربات أخرى لتنظيم «داعش» للقضاء عليه، بينما 11 في المئة يرفضون، و13 في المئة لم يحدّدوا موقفهم.
حتى الأمس القريب، كثرت التكهّنات حول طبيعة التدخل الذي ترغب فيه القاهرة. وفيما كان البعض يتوقع أن يأتي في إطار المطالبة بإصدار قرار دولي عبر مجلس الأمن ليكون بمثابة غطاء سياسي وقانوني لأيّ عمل عسكري في ليبيا لا تحبّذ مصر الانخراط فيه منفردة، كان هناك من ذهب إلى رؤية مصرية سابقة لمجمل التطورات الأخيرة في ليبيا تقوم على أساس أن يشكل تهديد الإرهاب الجيوسياسي غير المسبوق فرصة تاريخية لتضافر الجهود وإحياء منظومة العمل العربي المشترك عن طريق الجامعة العربية وبتفعيل الاتفاقات العربية كميثاق الدفاع المشترك.
يذكر أنّ دول الجوار الليبي المؤلفة من: مصر، تونس، السودان، إضافة إلى تشاد والنيجر، التقت في ظلّ غياب الجزائر لبحث أمن الحدود في تونس في حزيران 2014، وخرجت القمة بلجنة سياسية تقودها مصر، وأخرى أمنية تقودها الجزائر لمواجهة التهديدات الحدودية الناتجة من الأزمة الليبية، قبل أن تخرج هذه الدول إثر لقائها في القاهرة في أب 2014 بمبادرة للحوار الشامل، ونزع سلاح الميليشيات، ومكافحة الإرهاب، والتنسيق حول أمن الحدود. يؤخذ على العموم ضآلة ما حققته لجنتا الجزائر والقاهرة، في حين يؤخذ على الأخيرة أنها لم تدعُ على رغم كل التحديات إلى اجتماع مجلس الأمن القومي المصري لوضع استراتيجية محدّدة في هذا الخصوص.
إلى الآن تتحدث القاهرة عن مسارين متوازيين: أمني وسياسي. وكان واضحاً مدى الاستعداد القتالي الذي كانت تبديه القاهرة طوال الأيام الماضية، وخصوصاً إبان زيارات قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى المناطق المحاذية لليبيا والأنباء عن عملية إنزال للجيش في الداخل الليبي، كما أنّ وزير الخارجية المصري بذل جهوداً حثيثة خلال اجتماعات مطوّلة عقدها مع مندوبي الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي لمحاولة إقناعهم بجدوى التحرك العسكري الجماعي قبل أن يخرج علينا بجملة مقترحات كانت في صلب مشروع القرار العربي المقدّم للمجلس، وهي تصبّ في خانة تمكين حكومة الثني المعترف بها دولياً وضرورة رفع الحظر عن وصول السلاح إليها، مع تهيئة الفرص لقيام حوار سياسي داخلي في ليبيا ومحاربة الإرهاب.
كما أنّ الأزمة في ليبيا وما تنطوي عليه من اصطفافات داخلية تدخل فيها حسابات النفط والسلطة والسيطرة الميدانية تأثرت وما زالت تتأثر بلعبة أمم وامتداداتها الخارجية. في ما يخصّ الوضع هناك، وكما بات معلوماً، فإنّ تراجع موجة «الصعود الإسلامي» في المنطقة بعد «ثورة يونيو» ساهم في بزوغ محور يضمّ بشكل أساسي مصر، الإمارات، والجزائر إلى حدّ ما، ويصنف على نحو عام على أنه فريق رافض للتيارات الإسلاموية بحكم طبيعة تركيب نظمها السياسية الداخلية وطبيعة نظرتها المشوبة بشيء من الخوف والحذر تجاه هذه التيارات.
في المقابل، اكتسبت، منذ إسقاط نظام القذافي، دول كقطر وتركيا وغيرها نفوذاً متنامياً في ليبيا بحكم مساندتها لـ»الصعود الإسلامي» والجماعات المنبثقة من خلفيات «إخوانية» و»سلفية»، ونظراً إلى شبكة مصالحها الاقتصادية الكبيرة هناك. وهذه اللعبة ترخي بظلالها على واقع توصيف المشهد الليبي وأفرقائه بين حكومة ومعارضة وميليشيات من قبل المحاور المتصارعة.
من هذا المنطلق، ترفض القاهرة الانخراط ضمن إطار «المظلة الدولية لمحاربة الإرهاب» ما لم تعترف أطرافها بعمومية وشمولية المواجهة مع الإرهاب، وبضرورة عدم الانتقاء في محاربة جماعة إرهابية دون أخرى. على سبيل المثال، فإنّ دولاً من تلك المنظومة كالولايات المتحدة وقطر ما زالت تتنازع مع القاهرة في مسألة توصيف جماعة «الإخوان المسلمين» كتنظيم إرهابي أم لا. ويتمسك الرئيس المصري برؤيته أنّ الفوضى في ليبيا لا تهدّد بلاده فحسب، لا سيما أنه حذر نظيره الفرنسي هولاند قبل أربعة أشهر من تحوّل الوضع هناك نحو خلق بؤرة إرهاب ستهدّد منطقة حوض المتوسط وأوروبا بأسرها، وأعاد التذكير بأخطاء حملة «الناتو» في ليبيا ومسؤولية المجتمع الدولي تجاه شعبها. ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة حراكاً سياسياً وعسكرياً لمحاصرة «داعش» يقوده السيسي الذي سوف ينطلق خلال أيام نحو السودان المتهم من قبل جهات إقليمية بدعم الإرهاب الذي أعلن تمدّده إلى جنوب السودان أخيراً.
تربط صحيفة «لوموند» ما جرى بسياسة داخلية وخارجية للحكم الجديد الساعي نحو استعادة الأدوار الإقليمية لـ»بلاد الكنانة»، فيما يرهن محللون مآل الوضع المتدهور في ليبيا بدرجة التهديد الذي تمثله استمراريته على الدول الغربية، لا سيما الأوروبية والمتوسطية منها، التي سيكون عليها أن تحدّد بالضبط ماذا تريد من ليبيا، وما هو التوقيت المناسب للتدخل حفاظاً في المقام الأول والأخير على مصالحها.