يموت الإنسان إذْ تموت نزعته الإنسانيّة

جورج كعدي

مذ تهافتت الإيديولوجيّات والطوباويّات حلّ الشكّ في القيم وتزعزعت أسس العالم وتملّك الخوف كينونة الإنسان، حتى مضى الفكر الفلسفيّ أبعد من «موت الإيديولوجيا» و«موت اليوتوبيا» و«نهاية التاريخ»… إلى مقولة «موت الإنسان» التي شغلت الفكر الفلسفيّ المعاصر وأعلامه الكبار من أمثال هايدغر ولاكان وألتوسّير وفوكو وفيرّي وهابرماس وريكور وليفي ستروسّ ودرّيدا وآخرين، فتفاقم السؤال عن «المعنى» و«غياب المعنى» وأعيد توليد الأسئلة القديمة ـ الجديدة حول جوهر الوجود وغايته والله و«موت الله» والألم والشقاء والموت والعبث والتاريخ والثقافة والمعرفة، الخ. وها أنا أعيد بنشوة فكريّة عارمة قراءة مؤلّف قيّم جداً للدكتور عبد الرزّاق الدّوايْ، أستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة الرباط، تحت عنوان «موت الإنسان في الخطاب الفلسفيّ المعاصر» «دار الطليعة» في بيروت ، راغباً في تقاسم هذه النشوة الفكرية مع القارئ، وعارضاً في اختصار، على حلقات مختلفة العناوين، لمضامين بحثه، لما فيه من غنى فكريّ ومرجعيّ، ولما يحوي من أفكار تلقى صدى في زمننا الراهن الموسوم بالأزمات الإنسانيّة والقيميّة والأخلاقية والوجودية على اختلاف تمظهراها وأبعادها.

يرى الباحث الدَوايْ أن الفكر الفلسفيّ المعاصر أجمع برموزه التي أسلفنا ذكر بعضها على أن الفلسفة كانت تكذب على نفسها وتحيا على وهم، حين آمنت طوال قرون بالإنسان كوعي وإرادة، وكذات خالقة للمعنى ومبدعة للدلالات. وأنّ إنسان الفلسفة على وشك الانقراض، إذ لم يبق له من ملاذ سوى بقايا متهاوية من الفكر الميتافيزيقيّ، أو بعض الإيديولوجيات التي قيل إنها دخلت مرحلة الاحتضار! وبات الحقل الفكريّ يقتضي التخلّي عن نوعين من الأوهام هما النزعة الإنسانيّة والفكر التاريخيّ، فضلاً عن التحرّر من أوهام الميتافيزيقيا. وتقوم مرجعيّات البحث على النقد الهايدغريّ للنزعة الإنسانية وفلسفة الذات والدعوة إلى تفكيك الميتافيزيقا وتجاوزها، ثم النقد الأنتروبولوجيّ البنيويّ المتجسّد في أبحاث كلود ليفي ستروس ويصف نفسه بأنه نقد علميّ، فالنقد الأركيولوجيّ ثم الجينيالوجيّ في مشروع ميشال فوكو وهو مزيج من النقد البنيويّ وفلسفة التفكيك والاختلاف.

يلفت الدَوايْ في إيضاح منهجيّة بحثه إلى أن في استطاعة المهتمّين بالفكر الماركسيّ الفرنسيّ المعاصر، خاصة في ستّينات القرن الفائت، ملاحظة الظاهرة الفكريّة المثيرة لكون الموضوع الذي احتلّ مكان الصدارة في السجالات الفلسفية، سواء بين الماركسيّين أنفسهم، أو بينهم وبين تيارات أخرى، هو حول العلاقة بين الماركسيّة والنزعة الإنسانيّة والمفاهيم المرتبطة بها كالتاريخ والاستلاب والوعي الزائف والإيديولوجيا.

كما يُلاحظ أنّ تيار فلسفة «موت الإنسان» في فرنسا لم يعد يتبنّى موقف المعارضة الجذريّة للنزعة الإنسانيّة، ولمختلف أشكال الفكر والتفكير المحليّة على الذات والإنسان، إلاّ بعدما تنامت داخله ظاهرة الولع الكبير ببعث تقليد فلسفيّ ألمانيّ خاص وتجديده، وهو ينحدر من نيتشه وينتهي لدى هايدغر، حتى لو كانت حصيلة ذلك معظم الأحيان خليطاً غريباً من مفاهيم وطرائق بنيويّة وأفكار مستعارة من ماركس تارة ومن فرويد تارة أخرى. ويرى الباحث المغربيّ، ثالثاً، أنّ من الضروريّ ربط المناقشة حول أزمة النزعة الإنسانيّة بمنطلق نظريّ آخر لا يقل أهميّة عن السابق، بل ربّما قد يفوقه، إذ يعطي فلسفة «موت الإنسان» بُعدها المعاصر ويضفي عليها سمات الجديّة والوقار، والمقصود ظهور البنيويّة وتطوّرها وعدم رجوعها إلى أصول فلسفيّة، فمنهج البنيويّة يقترح نماذج جديدة للتعقّل والتفسير في ميادين العلوم الإنسانيّة.

إلى نظريّة التحليل النفسيّ مصدراً نظريّاً آخر تحيل عليه فلسفة «موت الإنسان»، فربّما لم تهتمّ الفلسفة عامة بالتحليل النفسيّ كوسيلة علاج وتركت مسألة تقويمه لما قد يحقق من نتائج في هذا المجال، لكن حينما راج أن مسلّماته ونتائجها والتأويلات الجديدة التي أعطيت لها ساهمت بالتأكيد في زعزعة المفهوم التقليديّ السائد عن الإنسان، لوحظ في الفكر المعاصر ازدياد الاهتمام به ومحاولات استثماره في مشروع تأسيس خطاب فلسفيّ جديد قيل إنه سيشكّل ثورة مضادّة وقطيعة كبرى مع التراث الفلسفيّ التقليديّ. وأكّدت نظرية التحليل النفسيّ بالفعل على أن ثمة حتمية تسود حياة الإنسان النفسيّة، وأن مفهوم الإنسان الواعي والعاقل والمسؤول أخلاقيّاً ما هو إلاّ من أوهام الفلسفة. ألم يعلن فرويد في دراسته «إحدى صعوبات التحليل النفسي» 1917 أن نظريته «ألحقت بالكبرياء البشرية ثالث إذلال كبير لها بعد كوبرنيك وداروين»؟ لكنّ الثابت في أيّ حال أن تيّار فلسفة «موت الإنسان» قلّما يحيل على نصوص فرويد ويفضّل القراءة الجديدة حولها المنجزة على ضوء المنهج اللسانيّ البنيويّ الذي اعتمده الطبيب والمفكر الفرنسيّ جاك لاكان Lacan وعرف باسم Lacanisme .

تلي نظرية التحليل النفسيّ ضمن منهجيّة البحث بعض أبحاث كلود ليفي ستروس ودراساته في ميدان الأنثروبولوجيا التي وضع أسسها أو النموذج الرئيسي من نماذج النقد البنيويّ للنزع الإنسانيّة. مع الانتباه دوماً إلى تأكيد ليفي ستروس على أن أبحاثه ذات طابع علميّ بحت ولا صلة لها البتة بالفلسفة، إذ مضى إلى حدّ إعلان نفوره من الفكر الفلسفيّ ساخراً ممن لا يزال مؤمناً بجدواه. علماً أنّ ثمة دراسات متأنّية وعميقة كشفت أنّ في أبحاثه تتداخل القضايا العلميّة فعليّاً مع الأفكار والتأمّلات الفلسفية، ما أنتج بالتأكيد أطروحات فلسفية تقترح تصوّراً معيّناً عن العالم، وعن الإنسان ومكانته، وعن العقل البشريّ والثقافة والتاريخ ومسألة التقدّم.

نموذج آخر وأخير يختاره الدَوايْ لبحثه المبدع العميق الغنيّ بالمراجع والإسنادات، هو المشروع الفكريّ لدى ميشال فوكو الذي نشأ في مناخ فكريّ هيمنت عليه «الثقافة الجديدة» في فرنسا، واشتهرت تلك الثقافة خاصة باتخاذها النقد الجذريّ للنزعة الإنسانيّة موضوعها المفضّل، باسم الهيمنة المطلقة للغة وللاشعور تارة، وباسم تجاوز الميتافيزيقيا تارةً أخرى. وأكثر ما جذب نظر فوكو إلى تلك الثقافة إقصاؤها مفهوم الذات وانتقادها التاريخ والفكر الجدليّ الوافد من القرن التاسع عشر. فواصل في أبحاثه بتفانٍ كبير ذاك التقويض الجذريّ لأسس النزعة الإنسانيّة، واتخذ لمشروعه النقديّ ميداناً جديداً خاصاً هو ميدان نشأة المعارف والعلوم، عازلاً إيّاه عن الحياة والبشر والتاريخ، ومبلوراً فيه أطروحته الفريدة التي تزعم أنّ المعرفة، كمجال تاريخي تظهر فيه العلوم، هي متحرّرة من كل ذات مؤسِّسة، وأن هناك في كلّ فترة تاريخية معينة ثوابت قَبْليّة تاريخية تتحكّم في إنتاج المعارف المتنوّعة وتنظيمها… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى