الكفاءة الإنتاجية… أولاً وأخيراً

لمياء عاصي

يكمن السرّ في رسم خريطة التنمية الاقتصادية تحقيق نهوض اقتصادي شامل للكثير من الدول، في القدرة على رفع المؤشرات الدالة على الكفاءة الإنتاجية في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات وغيرها، ولعلّ الثورة الصناعية من أهمّ التحوّلات في الحياة البشرية، التي أدّت بشكلٍ لافت إلى ارتفاع الكفاءة الإنتاجية في معظم دول العالم، ولكن العامل الحاسم كان لثورة المعلومات والاتصالات، التي نقلت الكفاءة في الإنتاج أو الخدمات إلى مستويات غير مسبوقة، وذلك بمساعدة الأنظمة الذكية والآلات التي حصل عليها تطوّر هائل، جعل قدراتها تفوق أيّ توقعات سابقة، بالطبع ترافق ذلك مع تغيير في البنى التنظيمية وعلاقات الإنتاج لينحو باتجاه تقسيم أكبر للعمل.

يرد مصطلح الكفاءة الإنتاجية، في المقالات والأبحاث الاقتصادية أو الاجتماعية وغيرها، فما المقصود بها؟

إنها العلاقة بين المدخلات التي تتضمّن المواد الأولية والآلات والعناصر البشرية، والمخرجات التي هي عبارة عن السلع المنتجة أو الخدمات المقدّمة، وتكون الكفاءة الإنتاجية أعلى كلما ازدادت نسبة المخرجات إلى الموارد المستخدمة، ضمن وحدة زمنية معينة.

إنّ الكفاءة الإنتاجية لا تتعلق بعملية الإنتاج فقط، من حيث عدد الوحدات أو السّلع، بل في كلّ المراحل السابقة واللاحقة لها في سلسلة الإنتاج، وخصوصاً القيم المضافة على الإنتاج الذي يعطيه قيمة أكبر، والجودة، والتسويق والترويج، مما يسهم في بيع المنتجات والحصول على حصّة من الأسواق تتناسب مع قيمة الاستثمار في المنشأة. ويمكن قياس الكفاءة الإنتاجية في الزراعة، من خلال قيمة المحصول الذي يتمّ جنيه، من وحدة معينة من الأرض في موسم معيّن، مع الأخذ بعين الاعتبار، العمليات التي تجري على المحاصيل بعد القطاف أو الحصاد، وفرزها وتغليفها وصولاً إلى تقديمها للمستهلك النهائي، من دون هدر أو ضياع وبأعلى قيمة ممكنة.

أما في الخدمات، مثلاً في المقهى، فإنّ الكفاءة الإنتاجية لنادل، تقاس من خلال عدد الزبائن الذين يخدمهم ويلبّي طلباتهم، ويحصل على رضاهم في وحدة زمنية معيّنة، أمّا الكفاءة الإنتاجية للمقهى نفسه، فتكمن في الابتكار الذي تقوم به إدارة المقهى من خلال تقديم منتجات وخدمات متجدّدة، للحفاظ على الزبائن وجذب زبائن جدد.

تثبت الإحصائيات والدراسات، الارتباط الوثيق بين الكفاءة الإنتاجية العالية وبين تقدّم الدول وارتفاع حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، حيث أنّ الدول الفقيرة بشكلٍ عام تنخفض فيها الكفاءة الإنتاجية، وتكون السلع والخدمات فيها محدودة ومرتفعة الكلفة مما يؤثر على تنافسيتها ويخفضها، الأمر الذي يدخلها في الحلقة المفرغة للفقر.

وفي هذا السياق، عدد كبير من الأسئلة… تفرض نفسها، وأهمها:

ـ كيف يمكن رفع الإنتاجية على مستوى الاقتصاد الكلّي للدولة، أو على مستوى المؤسّسات العامة والخاصة؟

ـ كيف تنعكس الكفاءة الإنتاجية على أهمّ المؤشرات الاقتصادية في الدولة، وأهمّها العائد على رأس المال؟

إنّ رفع الإنتاجية على المستوى الوطني، عملية يجب أن يشارك فيها كلّ من القطاعات الثلاث الحكومي، الخاص والأهلي ويستلزم تبنّي سياسات تتلخص كما يلي:

أولاً: الاستثمار في البحث العلمي وتعزيز موضوع الإبداع والابتكار والأفكار في كلّ المجالات.

ثانياً: تهيئة الناس للإنتاج، من خلال رفع جودة التعليم بكلّ مراحله وأشكاله، إضافةً إلى برامج التدريب مدى الحياة.

ثالثاً: منح القروض… لتسهيل امتلاك الآلات الصناعية والاستخدام الأمثل للتكنولوجيا.

رابعاً: تبنّي سياسات خاصة للاستثمار، في إنشاء وتوسيع العناقيد الصناعية لتعزيز الإنتاجية ورفع كفاءتها.

خامساً: تبنّي سياسات التطوير الإداري والإنتاجي، باستخدام الحلول المعلوماتية والأتمتة التي ترفع الإنتاجية.

إنّ السياسات المذكورة أعلاه يجب تطبيقها على مستوى الدولة، أما على مستوى المؤسسات فإنّ رفع الإنتاجية سواء في إنتاج السلع أو تقديم الخدمات الحكومية أو الخاصة … يستوجب ما يلي:

أولاً: إعادة هندسة الإجراءات المتبعة في المؤسسة، والتحقّق من أنّ الإجراءات المتّبعة فعلاً تدخل في صلب العملية الإنتاجية للمؤسسة، ونتيجة لهذه العملية يتمّ إلغاء كلّ الإجراءات الغير مجدية.

ثانياً: إدماج التكنولوجيا والتطبيقات الحاسوبية في صلب العملية الإنتاجية، والوصول إلى المعلومات والتشارك فيها من كلّ الأطراف التي تتعامل بها، مما يخفّف كثيراً من الإجراءات المكرّرة.

ثالثاً: الاستثمار في التدريب الجيّد والمستمرّ، مما يؤمّن مستوى عالياً لدى الموظفين وقدرة على الإنجاز، يؤدّي في نهاية المطاف إلى رفع الإنتاجية.

أخيراً، تطوير البنية التنظيمية وجعلها مرنة وفعّالة، بما يحقّق قدرتها على الاستجابة لمتطلبات الإنتاج والتسويق.

في الإجابة عن السؤال الثاني، والحديث عن انعكاس الكفاءة الإنتاجية على أهمّ المؤشرات الاقتصادية في الدولة، وأهمّها العائد على رأس المال، والاستثمار والتضخّم والبطالة، فإنّ تأثيرها المباشر على الربح بديهي، لأنّ الكفاءة الإنتاجية العالية تعني، الحصول على منتوجات أكثر لنفس الكمية من عناصر الإنتاج، وهذا يؤدّي إلى ارتفاع العائد على رأس المال أو الربح، كما أنّ انخفاض تكلفة السلع أو الخدمات المقدّمة يؤدّي إلى معدل تضخّم أقلّ، وتشجيع المزيد من الاستثمارات، وهذه الأسباب نفسها ستحسّن تنافسية المنتجات وتعزّز الصادرات، بسبب انخفاض السعر وتحسّن النوعية أو الجودة.

في الجانب السلبي لارتفاع الكفاءة الإنتاجية، أنها قد تسبّب بطالة بسبب الاحتياج لعدد أقلّ من العمال لإنتاج نفس الوحدات من السلع، ولكن في حالة النمو في الناتج المحلّي الإجمالي فإنه سيمتصّ العمالة الناجمة عن استخدام التكنولوجيا وارتفاع الإنتاجية.

على مستوى الموازنة العامة للدولة، سترتفع الحصيلة الضريبية وتزيد موارد الموازنة، بسبب ازدياد النشاطات الاقتصادية، وستكون قدرة الحكومة أكبر على الإنفاق العام في مجالات البنى التحتية والاستجابة لمطالب الناس، لتحسين مستواهم المعيشي والخدمات المقدمة لهم وخصوصاً التعليم والصحّة، الأمر الذي سينعكس على التنمية بشكلٍ عام.

في سورية، يعدّ مؤشر الكفاءة الإنتاجية منخفضاً في معظم القطاعات، الصناعة والزراعة والخدمات الحكومية، وعلى سبيل المثال، تعتبر معظم مؤسّسات القطاع العام المملوكة للدولة مثالاً، عن العمل بكفاءة متدنية، ناجمة عن البيروقراطية والهدر والتشغيل الاجتماعي، الأمر الذي ينتج عنه البطالة المقنعة، ويزيد في كلفة المنتج، ويترافق ذلك في ضعف القدرة على تسويق المنتجات وتكدّسها في المخازن، ما تعني خسائر محقّقة. ولرفع الكفاءة الإنتاجية للمؤسسات، لا بدّ من اللجوء إلى إحداث تغييرات هيكلية جذرية، في طريقة إدارة وملكية المؤسسات، وخصوصاً التي لا تحقق ربحية على صعيد الاقتصاد الوطني، هذه التغييرات عادةً ما تنجم عنها مشاكل كثيرة، ولكن، يمكن أن تدار بطريقة، يتمّ فيها تفادي الآلام الاجتماعية الناجمة عن تسريح العمال.

أخيراً، لا بدّ من السؤال، هل يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية في سورية، من دون رفع الكفاءة الإنتاجية على مستوى الاقتصاد الوطني بشكلٍ عام، وعلى المستوى المؤسساتي في القطاعين العام والخاص؟ يأتي الجواب على لسان تجربة الإصلاح الاقتصادي في سورية، حيث لم تتمّ من خلالها مقاربة جدية لرفع الكفاءة الإنتاجية في المؤسسات العامّة… فبقينا نراوح في المكان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى