الحرب العبثية… والحقيقة المفقودة
د. سلوى الخليل الأمين
الحقيقة عبارة مطاطة، لا يتقنها بشري على وجه الأرض، فالكل مختبئ خلف كواليس النفس الأمّارة بالسوء، والكلّ يدعي أن ما يمارسه هو الحقيقة فعلاً وقولاً، لكن مصطلح الحقيقة لا وجود له في أجندات الناس ولا في أجندات الدول الحضارية، ولا حتى في أجندات منظمة الأمم المتحدة، التي شكلت كي تحافظ على سيادة واستقلال الدول التي تندرج تحت رايتها، إضافة إلى ممارسة حقها في المحافظة على حرية الشعوب وسيادة أوطانها، بشرط ألا يسمح باختراق أرض دولة هي عضو فيها مهما كانت الأسباب والموجبات، وأياً كانت هوية شعوبها ومراتبها في سوق الاستهلاك العالمي والتصنيف الدولي.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية التي أنهت تلك الحرب بإطلاق القنبلة الذرية على هيروشيما، دون رادع أو وازع، أو وضع الحسابات لما قد يترتب على هذا الأمر الوحشي من دمار في البشر والحجر، ودون أي اعتبار لما قد ينتج بعدها من عواقب مضرّة بالمجتمع البشري العالمي وخصوصاً للشعب العربي بشكل عام، شبيه بما حصل بعد الحرب العالمية الأولى التي أدّت إلى تقسيم الوطن العربي إلى أوطان عبر اتفاقية سايكس ـ بيكو، وبالتالي استعباد شعبه، عبر منح السيطرة الاستعمارية للمنتصرين في تلك الحرب، بموجب تلك المعاهدة على بلادنا، فكانت سورية ولبنان من حصة فرنسا، والعراق وفلسطين وشرق الأردن من حصة بريطانيا، هذه الاتفاقيات والمؤتمرات من سان ريمو في إيطاليا العام بعد الحرب الأولى 1920، إلى مؤتمر سان فرنسيسكو العام 1945 بعد الحرب الثانية، أتاح للمنتصرين أيضاً، تحقيق وعد بلفور الصادر في العام 1917 والذي «منح» فلسطين لليهود في العام 1948.
هذه الحروب العبثية التي تمثل صراع البقاء أو صراع القوة ما زالت تذرّ رحاها بأشكال مختلفة، تارة تحت مُسمّى الحرب الباردة، وطوراً تحت مسمّى «ثورات الربيع العربي»، وأخيراً لا آخراً تحت مُسمّى مكافحة الإرهاب وغداً أو في المستقبل القريب تحت مُسمّى الحرب الجرثومية.
فلتاريخه، وبعد انحسار الانتدابين الفرنسي والبريطاني عن منطقتنا، بعد نضال مرير ومقاومة شديدة المراس انطلقت من بلاد الشام، ما زالت المؤامرات الكونية مستمرة، وما زال الطاغوت الأكبر المتحكم بالسيطرة على الشعوب المستضعفة قوياً، عبر فبركة الحجج الزائفة التي تؤدّي في نهاية الأمر إلى استعباد الشعوب من جديد باسم الحرية والسيادة والاستقلال، علماً أنّ الحرص على سيادة الدول، وعدم غزوها من بعضها البعض، أمر منوط تنفيذه والحرص عليه لمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن حسب دستورهما المكتوب في العام 1945. لكن ما يؤسف له أنّ قرارات هذه المنظمة تخضع للفيتو الأميركي الذي لا يعارض، والمدعوم من الصهيونية العالمية، بدليل ما تتمّ فبركته من ادّعاءات وتزوير إعلامي مدروس من أجل تبرير مساهمتهم أو بالأحرى تفعيل مخططاتهم العدوانية، عبر هذه الحروب الهمجية المخطط لها بدقة في دوائر القرار الأميركي، فهم من أوصل «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر وتونس بدعم مالي واضح من الدولة القطرية، وهم من يعطي الأوامر بالدعم لوجستياً ومالياً وعسكرياً لحلفائهم العرب والأتراك من أجل تدمير سورية والعراق ومصر ولبنان أيضاً، إضافة إلى تغطية تمدّد الإرهاب الداعشي إلى جزء من الأراضي العراقية والسورية والتمركز في جرود عرسال اللبنانية، دون أيّ اعتراض يذكر، سوى التوافق على تحرك خجول لم ينتج عنه، ما تطمح شعوبهم إليه من الحزم والجدية في مكافحة الإرهاب الذي بدأ بالتمدّد إلى بلدانهم.
بالرغم من ذلك ما زالت المؤامرة مستمرة، فمن تحطيم الجيش العراقي وحله، إلى إنهاك الجيش السوري بحرب شوارع وعصابات، إلى البدء حالياً بشنّ الهجوم المنظم على الجيش المصري، إلى ما يجري في اليمن وليبيا، إلى حصار غزة، إلى الهجوم المستمرّ في لبنان وزعزعة بنيانه الداخلي بالفتن المذهبية وبالدعوة الدائمة من فريق معيّن إلى سحب سلاح المقاومة، كلّ هذه المسارات هي من خطوط المؤامرة التي لم تصل حتى تاريخه إلى أهدافها المرسومة، بسبب قوة الفعل المقاوم المؤمن بالوطن والأرض والعرض والشرف والكرامات، وبقوة الشعور الوطني القومي الذي لم يسقط من النفوس المؤمنة بحقيقة الحرية والسيادة والاستقلال.
هذا الفعل الثابت حكماً لم تلحظه أميركا في خطوط بياناتها المؤامراتية، لظنها أنّ دعمها لأصحاب الثروات النفطية، وضخهم المال من أجل شراء النفوذ وإفقار شعوب المنطقة، سيساهم أيضاّ في تفعيل هذه المؤامرة وإنهائها بالسرعة المطلوبة.
لكن ما لم تدرسه أميركا ومن خلفها الصهيونية العالمية، هو مدى عمق الشعور القومي الوطني المتأصّل في تربية وأخلاقية أغلبية الناس في هذه الدول الموضوعة على حدّ السكين، فبالأمس ارتفع صوت المهندس عبد الحكيم عبد الناصر ابن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، في ذكرى الوحدة العربية بين مصر وسورية ليؤكد، بالصوت الصارخ، أهمية وحدة المسار والمصير بين الشعبين والجيشين السوري والمصري، اللذين يعرفان معنى النضال الحقيقي ضدّ كلّ مستعمر وغادر وخائن وعميل، مهما كانت رتبته أو مقامه أو خزائن بيت ماله، لأنّ الكرامة العربية وحدة لا تتجزأ حين الهدف الشيطاني واحد. فكيف للعربي أن ينسى أو يحذف من ذاكرته ما فعلته السلطة الأميركية في حربها الدائمة المدسوسة على شعوبنا، عبر احتلالها تحت أنظار العالم كله الأرض التي تريد، ضاربة بعرض الحائط قرارات منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، الذي لم يتمكن أمينه العام من لجم غطرستهم العدوانية المتسلطة، بل باركه بغض النظر عن التحقيق في الحجج الواهية والمختلقة التي ساقتها أميركا حين احتلت العراق غازية، والتي فضحها في ما بعد وزير الخارجية الأميركي كولن باول حين قال: «لا وجود لأسلحة الدمار الشامل، وما هي سوى حجة استعملت لحماية مصالحنا في الشرق ومصالح إسرائيل».
هنا يتماهى السؤال في هذا الشرق المبتلي بغطرسة الحاكم العالمي الفرد، الذي يطمس الحقائق من أجل تنفيذ حروبه العبثية، التي ما زالت تذرّ شراراتها الحارقة المارقة على بلادنا، دون أي اعتبار لإنسانية الإنسان وحقوقه المصونة من المنظمات الدولية، وبجهل البعض من الحكام العرب، الذين يتوارثون العروش والكراسي الرسمية، ويهملون التاريخ العربي المجيد المكلل بالانتصارات على كلّ المستعمرين الذين اكتسحوا هذا الوطن العربي مستعمرين.
الحقيقة أنّ حرية الشعوب مسألة ثانوية في قواميس الطغاة، والتاريخ يشهد أن ما من أمبراطورية حكمت وعلت عروشها سوى بحكم السيف وليس القانون، حيث كان استعباد الشعوب هو المسألة الحضارية في أجنداتهم، التي ما زالت سارية المفعول حتى تاريخنا هذا. فكيف لعربي أن يأمن لمصيره ومصير من حوله في زمن العصابات التكفيرية من «داعش» و«النصرة» و«القاعدة»، الذين أطلقتهم أميركا بالتنسيق والتعاون مع المافيا الصهيونية العالمية، دون أيّ حسابات للحقوق والواجبات الإنسانية، وما زالت تغضّ النظر عن أفعالهم الإجرامية، وعمّن يموّلهم ويدعم تواجدهم وأفعالهم الوحشية، خصوصاً أنّ كلّ الدواعش من عرب وأجانب يدخلون سورية والعراق ولبنان عبر الحدود التركية المفتوحة على عينك يا تاجر، وأمام أنظار العالم الحرّ وتبريكاته، بدليل ما فعلته تركيا من دخول قواتها علناً، إلى الأراضي السورية، بحجة نقل مقام سليمان شاه جدّ العثمانيين، وهنا نسأل الرئيس الأميركي أوباما الذي حشد في مؤتمره الأخير أكثر من 60 دولة من مختلف أقطار العالم بحجة التشاور لوضع الخطط الآيلة لمكافحة العنف والإرهاب: هل نحن بحاجة لبرامج دعائية أخرى لسياستكم التي أوجدت الإرهاب ونظمته ورعته وحمته وموّلته عبر قنواتها الخليجية؟ أم هي حربكم العبثية التي أردتموها ناراً محرقة وحقيقة مفقودة.